مكروهات الصيام

الصيام عبادة عظيمة لها أثر بالغ في تهذيب النفس وتطهير الروح، وهو من أركان الإسلام التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى. ولأن الصيام عبادة توقيفية، فإن أداءها على الوجه الأكمل يتطلب العلم بما يصححها ويكملها وما ينقصها ويفسدها. وقد فصل العلماء في أحكام الصيام، ومنها ما يتعلق بالمكروهات التي لا تبطل الصوم ولكنها تنقص من أجره وتخالف كمال هذه العبادة العظيمة. يتناول هذا المقال المكروهات التي ينبغي على المسلم تجنبها أثناء صيامه حتى ينال الأجر كاملاً ويؤدي هذه الفريضة بأعلى درجات الإتقان.

معنى المكروه في الصيام

المكروه في اللغة هو ما يُستقبح فعله ويُترك طلباً للثواب وخوفاً من العقاب. وفي الاصطلاح الشرعي هو ما نهى عنه الشرع نهياً غير جازم، بحيث لا يأثم فاعله ولكن يفوته الأجر الكامل. في سياق الصيام، يشير المكروه إلى الأمور التي لا تُفسد الصوم لكنها تُنقص من كماله، ويستحب للمسلم اجتنابها حرصاً على أداء العبادة بأفضل وجه.

أنواع مكروهات الصيام

تنقسم مكروهات الصيام إلى مكروهات تتعلق بالجسد والسلوكيات الشخصية، وأخرى تتعلق بالأقوال والأفعال التي لا تبطل الصوم لكنها تجرحه وتنقص من أجره.

المكروهات المتعلقة بالجسد

المبالغة في المضمضة والاستنشاق

من المكروهات التي ذكرها العلماء في باب الصيام أن يبالغ الصائم في المضمضة والاستنشاق أثناء الوضوء. فقد ورد في الحديث الشريف: “وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً” رواه أبو داود والترمذي. وهذا يدل على كراهة المبالغة في المضمضة والاستنشاق خشية أن يصل الماء إلى الحلق فيؤدي إلى إفطار الصائم.

التقبيل واللمس لمن يخشى على نفسه

التقبيل والمباشرة للزوجة أثناء الصيام مكروهة إذا كان الصائم يخشى من إثارة الشهوة التي قد تؤدي به إلى الإنزال أو الوقوع في المحظور. وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقبل بعض نسائه وهو صائم، لكن ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أملككم لإربه. أما من يخشى على نفسه فلا ينبغي له ذلك حتى لا يعرض صيامه للنقص.

الحجامة والاحتجام

ذهب بعض العلماء إلى كراهة الحجامة للصائم لأنها قد تضعفه وتؤثر على صحته خلال ساعات الصوم، بينما ذهب جمهور العلماء إلى أن الحجامة لا تفطر لكنها مكروهة خشية الضعف الذي قد يؤدي إلى الإفطار. وقد ورد في الحديث الشريف: “أفطر الحاجم والمحجوم” ولكن جمهور المحدثين بيّنوا أن هذا الحديث منسوخ، ومع ذلك بقيت كراهة الحجامة عند بعض العلماء قائمة بسبب احتمال الضرر.

المكروهات المتعلقة بالسلوكيات والأخلاق

الكذب والغش والخداع

الكذب من الأمور المحرمة في كل وقت، ويشتد قبحه أثناء الصيام لأنه يناقض مقصود هذه العبادة التي تهذب النفس وتعودها على الصدق والتقوى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” رواه البخاري. الكذب، والغش، والخداع تجرح الصيام وتقلل من أجره وتتنافى مع مقاصد الصيام التي تهدف إلى تزكية النفس.

السب والشتم والجدال العقيم

الوقوع في السب، الشتم، والجدال العقيم من المكروهات التي تضعف الصيام، وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم” رواه البخاري ومسلم. وهذه التوجيهات تؤكد على أهمية حفظ اللسان أثناء الصيام وعدم الانزلاق في المهاترات التي تضيع أجر الصيام.

الغيبة والنميمة

الغيبة والنميمة من الذنوب العظيمة التي تُضعف أجر الصيام، وقد شبّهها العلماء بأنها تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. ومن المعروف أن الغيبة هي ذكر المسلم بما يكره في غيبته، والنميمة هي نقل الكلام بين الناس بغرض الإفساد. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هاتين الآفتين لما فيهما من ضرر على الفرد والمجتمع.

الانشغال باللهو المفرط

الانشغال المفرط بالألعاب أو متابعة المسلسلات والأفلام التي تضيع الوقت وتلهي القلب عن العبادة من المكروهات التي تُنقص من كمال الصيام. الصيام فرصة عظيمة للعبد ليعود إلى ربه ويعمر أوقاته بالذكر والقرآن والطاعات، فلا ينبغي أن يضيعها باللهو الزائد.

الإسراف في الطعام عند الإفطار

من المكروهات أيضاً أن يُسرف الصائم في تناول الطعام عند الإفطار بما يتجاوز حاجته. الإسراف يناقض روح الصيام التي تعود النفس على الاعتدال والقناعة. كما أن تناول كميات كبيرة من الطعام دفعة واحدة يضر بالصحة ويثقل المعدة.

مكروهات أخرى في الصيام

تذوق الطعام بدون حاجة

تذوق الطعام أثناء تحضيره بدون سبب ضروري مكروه للصائم لأنه يعرضه لخطر ابتلاع شيء منه عن غير قصد. وقد أجاز العلماء التذوق عند الضرورة إذا كان الشخص يطبخ ويحتاج للتأكد من ملح الطعام مثلاً بشرط ألا يدخل شيء إلى حلقه.

مضغ العلكة الخالية من السكر

مضغ العلكة الخالية من السكر وإن كانت لا تفطر لأنها لا تحتوي على مادة غذائية ولا تدخل إلى الجوف، إلا أن بعض العلماء كرهوا ذلك لما فيه من مشابهة فعل الأكل ومخاطرة تسرب أجزاء صغيرة إلى الحلق.

كثرة النوم أثناء الصيام

كثرة النوم في نهار رمضان بحيث يضيع على المسلم معظم اليوم مكروه لأنه يفوّت عليه الأجر والثواب من استغلال الوقت في الطاعة. الصيام عبادة تتطلب يقظة القلب والجوارح، وكثرة النوم تُفقد الإنسان تلك الروحانية.

استخدام العطور والبخور بكثرة

استعمال العطور والبخور خلال الصيام مكروه عند بعض العلماء إذا كان فيه استنشاق مباشر للرائحة المركزة التي قد تصل إلى الحلق. أما مجرد التعطر الخفيف فلا حرج فيه. وقد احتاط بعض الفقهاء من التعرض المكثف للبخور خشية تسرب شيء من دخانه إلى الحلق.

الجدال في مسائل فقهية بلا علم

الانشغال بالجدال العقيم حول أحكام فقهية أثناء الصيام بلا علم ولا هدف سليم مكروه، إذ أن الصيام يدعو إلى التواضع وحسن الخلق لا إلى إثارة النزاعات الفكرية التي تقسي القلب وتشتت الذهن.

التفصيل الفقهي في المذاهب الأربعة

أجمعت المذاهب الأربعة على أن المكروهات لا تفسد الصيام ولكنها تضعف أجره وتخالف كمال العبادة. وقد فصلت كل مدرسة فقهية بعض التفصيلات الدقيقة في هذه المسائل:

هذا الجدول يوضح كيف اتفق الأئمة الأربعة على كراهة هذه الأمور مع بعض التفصيلات في كيفية التعامل معها، وهو ما يعكس حرصهم على حماية الصيام من كل ما ينقص أجره.

أثر مكروهات الصيام على روح العبادة

الصيام عبادة ذات بعد روحي عميق، والمكروهات تضعف هذا البعد لأنها تجرح الروحانية وتنقل الصيام من كونه عبادة قلبية تهذيبية إلى مجرد امتناع شكلي عن الطعام والشراب. ومن أبرز الآثار التي تنتج عن الوقوع في مكروهات الصيام:

• نقصان الأجر والثواب: فكلما كثرت المكروهات التي يرتكبها الصائم، قلّ نصيبه من أجر الصيام.

• تبلد الحس الروحي: المكروهات تُضعف يقظة القلب وتشغل الإنسان عن الاستفادة الكاملة من بركات هذا الشهر الكريم.

• الاعتياد على الغفلة: التساهل مع المكروهات يورث النفس التعود على التقصير ويجعلها تتساهل مع الحرام.

لذلك يُستحب للصائم أن يتجنب المكروهات كما يتجنب المحرمات حتى يؤدي الصيام بروح التقوى والطاعة التي أرادها الله عز وجل.

كيفية اجتناب مكروهات الصيام

• تعلم الأحكام الفقهية: العلم بأحكام الصيام ومكروهاته هو أول خطوة لتجنبها، فالمعرفة تسبق التطبيق.

• ضبط اللسان: الحرص على الابتعاد عن الغيبة، النميمة، السب، والجدال من أعظم ما يحفظ الصيام من النقص.

• التركيز على الطاعات: ملء أوقات الصيام بالذكر، قراءة القرآن، وصلة الرحم يساعد على إشغال النفس عن الوقوع في المكروهات.

• الاعتدال في الطعام: تنظيم وجبات الإفطار والسحور وتجنب الإسراف يدرب النفس على الاعتدال ويمكّن الصائم من المحافظة على نشاطه.

خاتمة

مكروهات الصيام تمثل سلوكيات وأفعالاً ينبغي على المسلم الحريص على دينه اجتنابها، فهي لا تبطل الصيام ولكنها تحرمه من كمال الأجر والثواب. ومن هنا تأتي أهمية العلم بها ومجاهدة النفس على تركها حتى يكون الصيام تاماً في صورته ومعناه. فالغاية من الصيام ليست فقط الامتناع عن الأكل والشرب، بل بلوغ التقوى التي تتجلى في الانضباط الشامل للجوارح واللسان والقلب. وبذلك يحقق الصائم المعنى الحقيقي للصيام كما أراده الله سبحانه وتعالى.

المصادر:

• الإمام النووي، “المجموع شرح المهذب”، دار الفكر.

• ابن قدامة، “المغني”، دار هجر.