مفهوم القدرية وحكمها في الفقه الإسلامي

القدرية هو مصطلح يشير إلى فرقة إسلامية نشأت في التاريخ الإسلامي المبكر، تتعلق بمسألة القدر والاختيار بين الإرادة الإلهية والإرادة البشرية. هذا المصطلح يشتق من كلمة “القدر” التي تعني القضاء والحكم، ويطلق على أتباع هذه الفرقة الذين تمسكوا بموقف معين في مسألة القضاء والقدر، وهو الموقف الذي يُعرف بالقدرية. يعود تاريخ نشوء هذه الفرقة إلى القرون الأولى من الإسلام، وتحديداً في العصر الأموي، وكان لها أثر واضح في تطور الفكر الإسلامي الكلامي والفقهي.

أصل مفهوم القدرية

ظهر مصطلح القدرية في مواجهة الفرق الأخرى التي تناولت قضية القضاء والقدر، ومنها الجبرية والمعتزلة، وقد اتخذ القدرية موقفاً وسطياً يرفض الجبر ويرفض الإنكار المطلق للقدر. فهم القدرية أن الإنسان يملك حرية الإرادة والاختيار في أفعاله، ولا يُجبر على ما يفعله من الخير أو الشر، وأنه مسؤول عن أفعاله، في مقابل ذلك، هم يقرون بأن الله عز وجل قد خلق الإنسان وعلّمه واختاره، لكنهم يؤكدون أن الإنسان هو صاحب القرار النهائي في أفعاله.

جاء هذا الموقف كرد فعل على الجبرية الذين يرون أن الإنسان مجبور على أفعاله ولا يملك اختيارها، وعلى المعتزلة الذين يؤكدون حرية الإنسان لكنهم ينكرون بعض الصفات الإلهية. بذلك، تشكل القدرية كتيار فكري يحاول موازنة بين الإرادة الإلهية والحرية الإنسانية.

المبادئ الأساسية لمذهب القدرية

1. حرية الإنسان في الاختيار
   
   يؤمن القدرية بأن الإنسان مختار لما يفعل، فهو صاحب إرادة حرة لا تُجبر ولا تُكره على أفعاله. وهذا يعني أن الإنسان مسؤول مسؤولية كاملة عن أعماله في الدنيا، سواء كانت خيراً أو شراً.

2. عدم الجبر
   
   يرفض القدرية مبدأ الجبر الذي يذهب إلى أن الإنسان مجبر على أفعاله ولا يملك التحكم بها، إذ يرى القدرية أن ذلك يُنكر العدل الإلهي، لأن الله لا يعاقب الإنسان على شيء لم يكن له يد فيه.

3. الخلق الإلهي للأفعال
   
   القدرية يقرون بأن الله هو الخالق لكل شيء، بما في ذلك أفعال الإنسان، ولكن الإنسان يختار كيف يستخدم هذه الأفعال في حياته. بمعنى آخر، خلق الله أفعال الإنسان لكنه لم يجبره على ارتكابها.

4. المسؤولية الجزائية
   
   إن حرية الإرادة التي تؤمن بها القدرية تعني مسؤولية الإنسان عن أفعاله أمام الله يوم القيامة، فلا عذر له بالجهل أو الإكراه.

5. رفض التشبيه والتجسيم
   
   رغم تمسكهم بحرية الإنسان، فإن القدرية يؤكدون توحيد الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به، ولا يصفون الله بأوصاف مخلوقة أو يشبهونه بالمخلوقات.

الفرق بين القدرية والجبرية والمعتزلة

لمسألة القضاء والقدر في الإسلام مواقف متعددة:

• الجبرية:
  
  تؤمن أن الإنسان مجبر على أفعاله وليس له أي اختيار، وأن الله يفرض عليه ما يشاء. هم ينكرون حرية الإرادة ويعتقدون أن الإنسان ليس له ذنب في ما يرتكبه من ذنوب.

• المعتزلة:
  
  يؤمنون بحرية الإنسان بشكل مطلق وينكرون القدر، ويرون أن الإنسان هو الخالق الحصري لأفعاله، وبالتالي يكون مسؤولاً عنها وحده. يرفضون أن يكون الله خالقاً لأفعال الشر.

• القدرية:
  
  توازن بين هذين الاتجاهين، إذ يقرون بأن الله خالق كل شيء، ولكنه أعطى الإنسان حرية الاختيار، فله دور في الأفعال وليس مجرد مجبر.

موقف العلماء من القدرية

القدرية كفرقة إسلامية لها آراء متباينة في التراث الإسلامي، وقد رفضها أهل السنة والجماعة في المجمل، خاصة بسبب بعض المبالغات التي وقعت فيها بعض التيارات القدرية في توسيع حرية الإنسان على حساب قدرة الله وعلمه المسبق، مما يُعتقد أنه قد يؤدي إلى إنكار بعض أصول العقيدة.

أجمع علماء أهل السنة على أن الإنسان مخير في أفعاله، ولكنه ليس خالقاً لها، بل الله هو الخالق الوحيد، وهذا هو الموقف الصحيح المنسجم مع التوحيد والعدل الإلهي.

القدرية في التاريخ الإسلامي

بدأت ظهور القدرية في العصر الأموي، ونسبوا إلى عبد الله بن المبارك ومن تبعه من العلماء. اشتدت الجدالات الكلامية والفكرية في هذا الشأن، خاصة في بغداد حيث كان المركز الرئيسي لعلم الكلام. وقد انتشرت الأفكار القدرية بشكل واسع حتى وقت قريب، ووجهت إليهم اتهامات بأنها تميل إلى الغلو في حرية الإنسان.

يُقال إن القدرية ظهروا كرد فعل على الجبرية التي كانت سائدة في بعض الأوساط السياسية والدينية، وكانوا يدافعون عن حرية الإنسان وكرامته.

حكم القدرية من الناحية الفقهية والعقائدية

من الناحية العقائدية، فإن مذهب القدرية يبتعد عن الاعتدال في التوحيد من وجهة نظر أهل السنة، وذلك بسبب بعض التصورات التي قد تنقص من قدرة الله وعلمه.

وقد أجمعت النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية على أن الله هو الخالق لكل شيء، وأن الإنسان مسؤول عن اختياراته وأفعاله، لكنه لا يخلقها بنفسه. وهذا هو الموقف الذي تلتزمه المدارس الإسلامية السنية.

أما حكم القدرية من الناحية الشرعية، فيمكن تصنيفه ضمن التيارات التي لا تتفق مع العقيدة السنية الصحيحة، ويُعدّ البعض القول بغير ما جاء به أهل السنة من الاعتقاد في القضاء والقدر من الضلال.

القضاء والقدر في الإسلام بين التوحيد والعدل

القضاء والقدر في الإسلام من أهم العقائد التي ترتبط بفهم علاقة الإنسان بربه وحكم الله على عباده. ويتفق العلماء على أن القضاء والقدر يشملان:

• علم الله المسبق بكل شيء

• كتابته لكل الأمور في اللوح المحفوظ

• مشيئة الله في وقوع الأحداث

• خلق الله لكل شيء

• قدرة الله المطلقة على تغيير الأمور

وفي الوقت نفسه، فإن الله خلق الإنسان مختاراً، مسؤولاً عن أفعاله، وله إرادة حرة في نطاق قديرته التي وهبه إياها.

علاقة القدرية بقضايا الحرية والمسؤولية

تناول القدرية مسألة حرية الإنسان بشكل أساسي، وأكّدوا على أن الإنسان لا يُجبر على أفعاله، ولذلك فهو مسؤول أمام الله، وهذا يتناسب مع العدالة الإلهية، لأن العدل لا يفرض العقاب على من لا يستطيع التحكم بأفعاله.

في ضوء ذلك، نجد أن القدرية حاولوا دعم حرية الإنسان كعامل أساسي للعدل والمحاسبة، ولكنهم أغفلوا أو قللوا من مفهوم قدرة الله المطلقة وعلمه الذي لا يحده زمان أو مكان، وهو ما دفع أهل السنة إلى تأكيد توازن الأمور بين القضاء والقدر.

الجدول التالي يوضح الفرق بين الفرق الكلامية الثلاث في قضية القضاء والقدر

الخلاصة

القدرية تمثل محاولة فكرية لتفسير علاقة الإنسان بالقدر الإلهي من زاوية الحرية والمسؤولية، وقد نشأت كرد فعل على الجبرية والمعتزلة، محاولةً إيجاد توازن بين قدرة الله وعلم الله من جهة، وحرية الإنسان ومسؤوليته من جهة أخرى. مع ذلك، يبقى مذهب القدرية غير مقبول لدى أغلب العلماء السنيين لأنه قد يُظهر تعارضاً مع بعض أصول التوحيد والعقيدة المتعلقة بالقضاء والقدر.

وقد كان موقف أهل السنة والجماعة أن الإنسان مخير، ولكن الله هو الخالق لكل شيء، وأن العدالة الإلهية تقتضي المحاسبة على أساس هذه الحرية المحدودة ضمن إرادة الله المطلقة. هذا المفهوم المتوازن هو الذي رسّخه القرآن الكريم والسنة النبوية عبر الآيات والأحاديث التي تحث على العمل، وتحذر من الجبر أو الإنكار.

المراجع

1. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار الحديث، الرياض.

2. أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق وتقديم عبد السلام هارون، دار الكتب العلمية، بيروت.