عفوا زوجي.. إنها أمي

في علاقات الزواج، غالباً ما يكون التوازن بين العلاقة الزوجية والعلاقات الأسرية تحدياً دقيقاً يتطلب وعياً ناضجاً وتفهماً عميقاً. ومن بين أبرز العلاقات التي تخضع للاختبار في هذا السياق، هي العلاقة بين الزوجة ووالدتها، خاصة حين يشعر الزوج أحياناً بأن هذه العلاقة قد تتعارض مع خصوصيات الحياة الزوجية. ومع أن الزوج هو شريك الحياة، فإن الأم تظل الأصل، الجذر، واليد التي أمسكت بيد ابنتها في أولى خطواتها، وهي التي ربت وسهرت وبذلت من عمرها وراحتها ما لا يُعد. ومن هنا، فإن عبارة “عفواً زوجي.. إنها أمي” لا تأتي تحدياً ولا إعلاناً للعداء، بل هي تعبير عن موقعٍ لا يتزحزح في قلب ابنة لم ولن تنسى فضل أمها عليها.

العلاقة بين الزوج والزوجة: شراكة لا امتلاك

الزواج مؤسسة قائمة على المودة والرحمة، كما وصفه القرآن الكريم. هو التقاء روحين على درب الحياة الطويل. في هذه المؤسسة، لا ينبغي أن يكون أحد الطرفين تابعاً أو خاضعاً بالكامل للآخر. الاحترام المتبادل هو حجر الزاوية لأي علاقة ناجحة. حين يطلب الزوج من زوجته التخلي عن بعض من وقتها أو اهتمامها أو حتى عاطفتها تجاه والدتها بدافع الغيرة أو الاعتقاد بأن ذلك يؤثر على الحياة الزوجية، فإن هذا الطلب يُخِل بجوهر الشراكة.

الزوجة لا تصبح ملكاً للزوج بمجرد عقد القران، بل تظل ابنةً مخلصةً، وأختاً محبةً، وإنسانةً لها جذورها ومشاعرها المستقلة. إن العلاقة مع الأم ليست منافسة، وليست عائقاً أمام الاستقرار الزوجي، بل هي مصدر للقوة والدعم النفسي والعاطفي، سواء للزوجة أو حتى للأسرة بأكملها.

الأم: الأصل الذي لا يُلغى

لا يمكن اختزال الأمومة في مشهدٍ عاطفيٍ وحيد أو لحظةِ ضعفٍ عابرة. الأم هي تلك التي لا تتكرر، والوحيدة التي تحب ابنتها بلا شرط ولا مقابل. هي من تعرفها دون أن تتحدث، وتشعر بها دون أن تشرح. حين تقول الزوجة لزوجها “عفواً.. إنها أمي”، فإنها لا تجرحه، بل تذكره بأن هناك علاقة لا تموت، ولا تتغير بتغير المراحل، علاقة يجب أن تُحترم لا أن تُحاصر.

الأم ليست ضيفة في حياة الابنة المتزوجة، وليست عنصراً طارئاً، بل هي امتدادٌ طبيعيٌ في يومياتها. زياراتها، اتصالاتها، أحاديثها، وحتى تدخلاتها أحياناً، يجب أن تُفهم في إطار العاطفة لا السيطرة، وفي إطار الحب لا التدخل السلبي. من المؤلم أن تجد الزوجة نفسها في صراع دائم بين رغبتها في إرضاء زوجها، وواجبها في الوفاء لأمها. وهو صراع لا يجب أن يوجد أصلاً إذا توفر الوعي الكافي لدى الزوج.

الزوج الواعي: بناء لا هدم

الرجل الحكيم هو من يعرف كيف يحتل قلب زوجته دون أن يُجبرها على إقصاء أحد، هو من يدرك أن علاقاتها السابقة عليه لا تنتقص من مكانته. بل على العكس، حسن تعامله مع أهل زوجته، وخاصة والدتها، يرفع من شأنه أمامها، ويعمق محبتها له. الزوج العاقل لا يخلق تنافساً وهمياً مع الأم، بل يسعى لتحويل العلاقة معها إلى مصدر دعم وإيجابية داخل الأسرة.

عندما يحتضن الرجل والدتها كما لو كانت أمه، ويعاملها بلين واحترام، يكون قد بنى جداراً من الثقة والوفاء بينه وبين زوجته. أما حين يُصر على مقاطعتها أو التقليل من شأنها أو التذمر المستمر من وجودها، فإنه يزرع بذور التنافر والكراهية في قلب من يحب، ويفقد جزءاً من احترامها له.

الأم والزوجة: تكامل لا تضاد

ليست العلاقة بين الأم والزوجة علاقة صراع أو تضاد، بل هي علاقة تكامل. الأم تعطي الحب والرعاية والخبرة، والزوجة تعطي التقدير والتواصل والحياة الجديدة. إن وجود الأم في حياة الزوجة يجب أن يُنظر إليه كقيمة مضافة، لا تهديداً. حتى في حالات الخلاف أو الفروقات بين الأجيال، يظل احترام الأم واجباً لا نقاش فيه.

في المجتمعات الشرقية خصوصاً، تشكل الأم نواة الأسرة، وهي التي تتحمل أعباء التربية وتنتقل مع مرور الزمن من دور القائدة إلى دور الناصحة. حين تفهم الزوجة هذا الدور، وتحترمه، فهي لا تقلل من شأن زوجها، بل تعطيه نموذجاً عظيماً للوفاء الأسري والاتزان العاطفي.

جدول: أوجه التفاعل الإيجابي بين الزوج والأم

الزوجة: بين الولاء العاطفي والواجب الأسري

من الخطأ افتراض أن الزوجة التي تهتم بوالدتها تُهمل زوجها أو تفضله عليها. القلب الإنساني يتسع لأكثر من حب، وكل علاقة فيه تأخذ مكاناً خاصاً بها. الحب بين الأم وابنتها متجذر بالدم، والحب بين الزوجين متجذر بالاختيار. حين تطلب الزوجة من زوجها أن يتفهم حاجتها لقرب والدتها، فإنها لا تتنكر للحب الذي بينهما، بل تطلب شراكة مبنية على الإنسانية.

الوفاء للأم لا يتنافى مع الوفاء للزوج. لا يمكن للمرأة أن تكون زوجة مستقرة نفسياً إذا كانت تشعر بالذنب في كل مرة تبتسم فيها لأمها، أو تهاتفها، أو تقضي معها بعض الوقت. وأي محاولة لفصلها عن أمها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، هي محاولة تهدد توازنها النفسي والعاطفي.

من منظور ديني وأخلاقي

الإسلام، كدينٍ شاملٍ، أولى الأم مكانة عظيمة. بل إن بر الأم قُدم على الجهاد في سبيل الله في بعض الأحاديث النبوية. كما أن بر الوالدين واجب لا يسقط بالزواج، ولا يحق لأي إنسان أن يطلب من زوجته ما يعارض هذا البر. فحين تطلب الزوجة من زوجها تفهماً لمكانة والدتها، فهي تمارس واجباً دينياً وأخلاقياً قبل أن يكون عاطفياً أو اجتماعياً.

ومن الناحية الأخلاقية، فإن تقدير الأم واحترامها يُعد انعكاساً لتربية الزوج، وللبيئة التي نشأ فيها. إذ لا يُنتظر من رجل صالح أن يطلب من زوجته أن تتنكر لأمها، ولا يُعقل أن تكتمل صورته كرجل ناضج دون أن يُظهر تقديراً واضحاً للأم التي صنعت من زوجته ما هي عليه.

مشهد متكرر في البيوت

كثيراً ما نرى مواقف يتضايق فيها الأزواج من المكالمات اليومية الطويلة بين الزوجة وأمها، أو من زيارات الأم المتكررة، أو حتى من مشاعر الحنين والارتباط العاطفي الواضح. هذه المشاهد يجب ألا تُفهم من منظور ضيق، بل من زاويةٍ أوسع تعكس تفهم طبيعة النفس البشرية.

إذا شعر الزوج بشيء من الغيرة، فإن عليه أن يراجع نفسه، لا أن يضغط على زوجته. فالغيرة هنا لا مبرر لها، لأنها لا تخص رجلاً غريباً أو علاقة غير مقبولة، بل تخص من كانت السبب في وجود الزوجة في الحياة، من علمتها الكلام والمشي والحب أيضاً.

أثر العلاقة الصحية مع الأم على الحياة الزوجية

حين تحظى الزوجة بدعم نفسي وعاطفي من والدتها، فإن ذلك ينعكس إيجاباً على استقرارها الداخلي، ما يجعلها أكثر قدرة على العطاء داخل بيتها. علاقة صحية مع الأم تعني وجود قناة دعم دائمة، مصدر للحنان، ومرجع للحكمة والخبرة. ولا يمكن لأي زوج عاقل أن يُنكر هذا الأثر الإيجابي.

في المقابل، عندما تُجبر الزوجة على الابتعاد عن أمها، أو تُشعر بالذنب كلما فكرت فيها، فإنها تعيش تمزقاً داخلياً يضعف من قدرتها على بناء حياة متزنة. وهذا التمزق قد يؤدي إلى مشكلات لا حصر لها، من القلق، مروراً بالاكتئاب، وصولاً إلى الفتور العاطفي داخل البيت.

في النهاية: توازن لا نزاع

ليس المطلوب أن يتراجع الزوج أمام الأم، ولا أن تتخلى الزوجة عن واجباتها الزوجية بحجة حبها لوالدتها. المطلوب ببساطة هو الوعي، التوازن، والاحترام. حين تكون العلاقة قائمة على هذه المبادئ، فإن عبارة “عفواً زوجي.. إنها أمي” لا تصبح رفضاً، بل دعوة للفهم، ولا تعني تفضيلاً، بل تذكيراً بأصلٍ لا يُنسى، وجذرٍ لا يُقطع.

المراجع

1. القرضاوي، يوسف. الحلال والحرام في الإسلام، دار الشروق.

2. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة.