معجزة (ولا تقربوا الزنا): قراءة علمية وروحية في أبعاد النهي القرآني

إن الآية الكريمة: “ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً” [الإسراء: 32]، تمثل أحد المواضع البلاغية والتشريعية المعجزة في القرآن الكريم، حيث لا تنحصر دلالتها في البعد الأخلاقي والديني فحسب، بل تتجاوز ذلك لتغوص في أعماق الإنسان، وعلاقاته، ونسيجه المجتمعي، وتؤسس لوقاية شاملة من الانحرافات النفسية، والاجتماعية، والصحية. إن هذه الآية القصيرة المكثفة تُعد مثالًا واضحًا على ما يمكن تسميته بـ”الإعجاز التربوي والاجتماعي”، لِما تنطوي عليه من معانٍ وحقائق أقرّها العلم الحديث والنظم المجتمعية المختلفة على مر العصور.

أولاً: دقة التعبير القرآني “ولا تقربوا الزنا”

لم يقل القرآن “ولا تزنوا”، بل قال “ولا تقربوا الزنا”، وهو تعبير في غاية الدقة يحمل بعدًا تحذيريًا عميقًا. فالنهي لا يقتصر على الفعل ذاته، بل يشمل كل مقدماته ومشتقاته، وكل الوسائل التي قد تؤدي إليه، من اختلاط غير منضبط، أو خلوة، أو تعري، أو إثارة جنسية، أو حتى فكر شهواني قد يفتح الباب للانزلاق.

هذه العبارة المختصرة تمثل قيدًا تربويًا ووقائيًا شاملاً، حيث يمنع الانخراط في أية أجواء قد تؤدي إلى ارتكاب هذه الفاحشة، مما يدل على أن الشريعة الإسلامية لا تعالج المرض بعد وقوعه فحسب، بل تعمل على اجتثاث جذوره من الأساس.

ثانيًا: الزنا في ميزان القيم الأخلاقية والدينية

الزنا في الشريعة الإسلامية ليس مجرد خرق لنظام أخلاقي، بل يُعد “فاحشة”، أي جريمة أخلاقية عظيمة تتعدى آثارها إلى النسيج الاجتماعي والأخلاقي للأمة. وقد ذُكر في مواضع كثيرة من القرآن مقرونًا بصفات سلبية، منها:

• الفاحشة الكبرى.

• انتهاك للكرامة الإنسانية.

• وسيلة لتفكك الأسرة وتدمير الأنساب.

• بوابة لانتشار الأمراض والمجاعات النفسية.

وقد جاءت الشريعة الإسلامية بعقوبات صارمة ضد الزنا (الجلد أو الرجم) ليس بقصد القسوة، بل لتحقيق الردع المجتمعي، وصون الشرف، وحفظ الأعراض والأنساب.

ثالثًا: الأبعاد النفسية والمعنوية لتحريم الزنا

تشير دراسات علم النفس الحديث إلى أن العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج تؤدي إلى اختلالات عاطفية ونفسية خطيرة، منها:

• فقدان الاستقرار العاطفي: حيث يعيش الزاني شعورًا دائمًا بالقلق والخوف من الفضيحة، أو فقدان الطرف الآخر، أو من العواقب الصحية والاجتماعية.

• انهيار الثقة بالنفس: نتيجة الشعور بالإثم والذنب، خاصةً في البيئات المحافظة.

• اضطراب العلاقات الإنسانية: حيث يصبح الشخص أقل قدرة على بناء علاقات مستقرة طويلة الأمد قائمة على الاحترام والتفاهم.

كل هذه النتائج أثبتتها مراكز الأبحاث النفسية والاجتماعية في الغرب، خاصةً بعد تفشي العلاقات الجنسية غير المشروعة، وارتفاع نسب الطلاق والتفكك الأسري.

رابعًا: الزنا من منظور الصحة العامة

من أبرز أوجه الإعجاز في تحريم الزنا ما يتعلق بالجوانب الصحية والطبية. فقد أثبت الطب الحديث أن الزنا من أبرز أسباب انتشار العديد من الأمراض المنقولة جنسيًا، مثل:

• الإيدز (HIV/AIDS)

• الزهري (Syphilis)

• السيلان (Gonorrhea)

• الكلاميديا (Chlamydia)

وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من مليار إصابة بالأمراض الجنسية تحدث سنويًا في العالم، معظمها نتيجة للعلاقات الجنسية غير المحمية أو غير المشروعة.

ويلاحظ أيضًا أن الزنا يؤدي إلى:

• ارتفاع حالات العقم عند النساء.

• ازدياد احتمالات الإصابة بسرطان عنق الرحم.

• نقل الأمراض من الأم إلى الجنين في حال حدوث حمل غير شرعي.

• عبء اقتصادي ضخم على الأنظمة الصحية.

إن كل هذا يشير إلى أن النهي القرآني عن الزنا لم يكن فقط دينيًا أو أخلاقيًا، بل هو أيضًا توجيه وقائي صحي بالغ الدقة.

خامسًا: الزنا وأثره في تفكك الأسرة والمجتمع

الأسرة في الإسلام هي الخلية الأساسية لبناء المجتمع، والزنا هو من أكبر التهديدات لهذه الخلية. ومن أبرز آثاره الاجتماعية:

• اختلاط الأنساب: مما يؤدي إلى أزمات قانونية ونزاعات قضائية متكررة، وحرمان الأطفال من حقوقهم.

• تفشي ظاهرة أطفال الشوارع: وهي إحدى النتائج المباشرة للعلاقات الجنسية غير الشرعية.

• ضعف الترابط الأسري: نتيجة فقدان الثقة، وانهيار العلاقات الزوجية بعد اكتشاف الخيانة.

• نشر ثقافة الاستهلاك الجنسي: التي تحوّل الإنسان إلى أداة للمتعة العابرة، ما يؤدي إلى تسليع الجسد.

وقد ربط علماء الاجتماع بين انتشار الزنا وارتفاع نسب الجريمة، وانخفاض نسب الزواج الشرعي، وتزايد الإدمان، مما يؤكد أن تحريم الزنا يمثل دعامة جوهرية لاستقرار المجتمعات.

سادسًا: مقارنة تشريعية بين الإسلام والقوانين الوضعية

في حين يجرّم الإسلام الزنا ويُدرجه ضمن الكبائر، فإن القوانين الوضعية في كثير من الدول الغربية والشرقية تبيحه وتشرعنه تحت مسميات مثل “الحرية الشخصية” أو “العلاقات الرضائية”. وقد ترتب على ذلك تفكك أسري غير مسبوق، حيث:

• تجاوزت نسب الطلاق 50% في بعض الدول الأوروبية.

• ارتفعت نسب الأطفال المولودين خارج إطار الزواج إلى أكثر من 40%.

• زادت حالات الإجهاض غير الآمن، وما يترتب عليه من مضاعفات نفسية وصحية.

وفي المقابل، فإن الدول التي تحرص على تطبيق تشريعات دينية واضحة ضد الزنا، تسجل معدلات أدنى في الأمراض الجنسية، والطلاق، والانحرافات الأخلاقية، مما يعكس الدور الوقائي للتشريع الإسلامي.

سابعًا: الزنا في الكتب السماوية السابقة

لم يكن تحريم الزنا من خصوصيات الإسلام وحده، بل هو أمر جذري في جميع الرسالات السماوية، وهو ما يعكس فطرية هذا النهي. ففي التوراة والإنجيل، نجد تأكيدًا صريحًا على تحريم الزنا:

• في الوصايا العشر: “لا تزنِ” [خروج 20:14]

• في إنجيل متى: “وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه” [متى 5:28]

وهذا يدل على أن الزنا من الذنوب التي تقضي على طهارة القلب، وتدمر الكيان الروحي للإنسان.

ثامنًا: فلسفة الحماية في الإسلام: الزواج مقابل الزنا

في مقابل تحريم الزنا، لم يغفل الإسلام حاجة الإنسان الغريزية، بل شرّع الزواج كحل طبيعي، مشروع، منظم، يضمن:

• الإشباع العاطفي والجسدي في إطار مسؤول.

• حماية الأنساب.

• تكافؤ الشراكة بين الرجل والمرأة.

• الرعاية التربوية السليمة للأبناء.

كما يلاحظ أن النهي عن الزنا في القرآن ارتبط في كثير من المواضع بتشجيع الزواج، حيث جاء بعده مباشرة قوله تعالى:

“وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم” [النور: 32]، في دلالة على أن الوقاية لا تكتمل إلا بإشباع الغريزة عبر الوسائل المشروعة.

تاسعًا: الإعجاز التشريعي في حد الزنا

يمثل حد الزنا في الإسلام جانبًا من جوانب الإعجاز التشريعي، حيث تم تفصيل العقوبة وفقًا لحالة الزاني:

هذا التفصيل يعكس مبدأ التدرج في العقوبة، ويراعي الحالة النفسية والاجتماعية للزاني، ويجمع بين الردع والعدل. كما أن الإثبات الدقيق لهذه الجريمة (أربعة شهود عدول أو الاعتراف الصريح) يجعل تطبيق الحد منضبطًا وخاليًا من الظلم.

عاشرًا: أثر الالتزام بآية (ولا تقربوا الزنا) في بناء حضارة إسلامية راقية

ساهم الالتزام الجماعي بهذه الآية في بناء مجتمعات إسلامية نقية، متماسكة، أقل عرضة للانهيارات الأخلاقية. وقد سجل التاريخ الإسلامي مستويات راقية من الطهارة والعفاف والحياء، انعكست في:

• شيوع الزواج المبكر.

• انخفاض نسب الجريمة الجنسية.

• بناء أسر قوية ومترابطة.

• سيادة الأخلاق في الأسواق، والمدارس، والبيوت.

خاتمة: معجزة “ولا تقربوا الزنا” عبر الزمان والمكان

إن الآية الكريمة “ولا تقربوا الزنا” تتجلى فيها عبقرية التشريع الإسلامي الذي يسبق زمانه، ويعالج أعقد مشكلات الإنسان من الجذر لا من السطح. فهي قاعدة وقائية، وتشريع وقائي، وقانون إنساني، وصياغة لغوية معجزة، تتوافق مع الفطرة، ومع العلم، ومع التجربة البشرية عبر العصور.

لقد أثبتت الوقائع والتجارب أن تجاهل هذا النهي يؤدي إلى أزمات فردية وجماعية لا حصر لها، بينما يُفضي الالتزام به إلى بناء مجتمع نقي، متوازن، آمن.

المراجع:

1. القرآن الكريم، سورة الإسراء، آية 32، وسورة النور، آيات متفرقة.

2. تقرير منظمة الصحة العالمية: “Sexually Transmitted Infections (STIs)”, WHO, 2023.