مشكلة المصاحبة وحلم النهضة

مقدمة

لطالما شكلت علاقة المجتمعات الإسلامية بالحداثة واحدة من أعقد الإشكاليات الفكرية والثقافية التي واجهت النخب والمصلحين في العصر الحديث، وقد تجلت هذه العلاقة في مصطلحات وتصورات عدة، من بينها مفهوم “المصاحبة”، أي محاولة التوفيق أو التعايش بين منظومة تراثية دينية وثقافية قائمة، وبين موجات التحديث القادمة من الغرب سواء عبر الاحتلال المباشر أو التأثير الحضاري غير المباشر. وفي خضم هذه المحاولة، برز حلم النهضة كرافعة كبرى لمشروع استعادة المكانة الحضارية، واستعادة الذات المسلوبة، وتحقيق العدالة والحرية والتنمية. إلا أن هذه العلاقة التي بدت في ظاهرها تصالحية، كانت في عمقها إشكالية ومليئة بالتوترات والصراعات.

فالمصاحبة لم تكن مجرد محاولة تقنية لمواءمة القديم بالجديد، بل كانت في جوهرها مسألة وجودية تمس الهوية، والمرجعية، ونمط التفكير، وموقع الذات في التاريخ. من جهة، كانت المصاحبة وسيلة لتفادي القطيعة التامة مع التراث والدين، ومن جهة أخرى كانت نافذة للتطلع إلى الازدهار العلمي والسياسي والاقتصادي الموعود على أعتاب الحداثة. لكن، ومع توالي التجارب والمشاريع، أبانت هذه العلاقة عن مأزق عميق، تجلى في تعثر مشاريع النهضة وتكرار الأزمات وتفاقم التبعية، مما يدفعنا إلى إعادة النظر جذريًا في طبيعة المصاحبة نفسها وفي حدودها ومآلاتها.

مفهوم المصاحبة وحدوده

المصاحبة تعني من حيث اللغة المرافقة أو المسايرة، أما من حيث الدلالة الفكرية، فهي محاولة الجمع بين مكونين متباينين أو متناقضين: منظومة تراثية دينية وروحية وثقافية، ومنظومة حداثية ذات مرجعية عقلانية علمانية ذات طابع تقني واقتصادي. وقد وُلد هذا المفهوم كرد فعل على الصدمة التي خلفها اللقاء العنيف بين الشرق الإسلامي والغرب الحديث، خاصة مع الحملة الفرنسية على مصر (1798) وما تلاها من احتلالات وتدخلات وانهزام سياسي وحضاري.

ومع ذلك، فإن المصاحبة ليست مجرد موقف تلقائي بل هي تعبير عن خيار فكري واستراتيجي، تبناه كثير من المصلحين مثل محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم ممن سعوا إلى تجديد الفكر الديني وتحديث المجتمع دون التفريط في الهوية الإسلامية. وقد استندت المصاحبة إلى فكرة مركزية مفادها أن بالإمكان أن نأخذ من الغرب مظاهر التقدم العلمي والتقني، دون أن نأخذ معه منظومته القيمية والفلسفية، أي أن نكون “حديثين دون أن نكون غربيين”.

لكن هذا التصور سرعان ما واجه إشكالات حادة، لأن الحداثة ليست فقط أدوات وتقنيات، بل هي منظومة متكاملة ذات رؤية للعالم، ونسق معرفي وقيمي، ونمط إنتاج للمعنى. وبالتالي، فإن محاولات الاستفادة من منجزات الحداثة مع الحفاظ على الإطار التراثي والديني سرعان ما اصطدمت بتناقضات جوهرية، فكان الناتج في كثير من الأحيان توتراً فكرياً واجتماعياً وسياسياً، تجلى في خطاب مزدوج، ومؤسسات منقسمة، ومجتمع يعيش حالة من التيه والاغتراب.

تجليات المصاحبة في التجارب النهضوية

منذ مطلع القرن التاسع عشر، برزت مشاريع إصلاحية عدة في العالم الإسلامي تهدف إلى إيقاف الانحدار الحضاري، واستعادة الاستقلال والتنمية. وقد سلكت هذه المشاريع دروباً مختلفة لكنها اجتمعت في نقطة مركزية وهي المصاحبة. فقد حاولت الدولة العثمانية مثلاً عبر “التنظيمات” أن تُدخل إصلاحات قانونية وإدارية مستمدة من النموذج الأوروبي، دون المساس بالبنية الدينية التقليدية. وكذلك فعلت مصر محمد علي، التي شهدت تحديثًا عسكريًا وتعليميًا وصناعياً ملحوظًا، دون أن يصاحب ذلك تحولات جذرية في بنية الفكر السياسي والديني.

وفي المشرق والمغرب، تبنى العديد من المفكرين دعوات التجديد، فكتب الطهطاوي عن ضرورة اقتباس العلم الأوروبي، ودعا خير الدين التونسي إلى الإصلاح السياسي والإداري وفقاً لنموذج مستمد من الغرب، لكن دائمًا ضمن رؤية توفيقية تتجنب الصدام مع المرجعيات التقليدية. كما برز تيار واسع في الفكر الإسلامي الحديث يدعو إلى تجديد الفقه وأصوله لمواكبة العصر، مع الحفاظ على روح الشريعة.

إلا أن هذه التجارب، وعلى الرغم من جديتها وصدق نواياها، لم تُفضِ إلى النهضة المرجوة. فقد ظل العقل الإصلاحي حبيس معادلة توفيقية غير مستقرة، عاجزاً عن الحسم بين مرجعية دينية تقليدية قائمة على النقل، ومرجعية حداثية تقوم على العقل والتجربة والشك المنهجي. وقد انعكس هذا التردد على البنى الاجتماعية والسياسية، حيث ظلت المؤسسات التعليمية، والقضائية، والإعلامية، في كثير من البلدان العربية والإسلامية موزعة بين خطابين، مما حال دون تحقيق تراكم معرفي أو تطور مؤسسي حقيقي.

نقد المصاحبة: من التوفيق إلى الازدواجية

إن الإشكال الأساسي في المصاحبة لا يكمن فقط في طابعها التوفيقي، بل في أنها في كثير من الأحيان تحولت إلى ازدواجية بنيوية مزمنة. فبدلاً من أن تُفضي إلى توليد نموذج خاص من الحداثة الإسلامية، أنتجت واقعاً مشوشاً تتعايش فيه خطابات متناقضة، ونُظم تعليمية منقسمة بين التعليم التقليدي والتعليم الحديث، وإدارة سياسية تمارس أدوات الدولة الحديثة ضمن رؤية سلطانية تقليدية.

وقد ذهب بعض المفكرين إلى أن هذا النمط من المصاحبة قد أدى إلى تعطيل الحداثة نفسها، بل وإفراغها من محتواها التحرري والتنويري، فتحولت إلى حداثة مشوهة، تستورد أدوات الإنتاج، لكنها لا تؤمن بحرية الفكر أو استقلال الإنسان، ولا تتبنى أسس العقلانية النقدية. كما أن هذه المصاحبة لم تُفلح في حفظ الهوية، بل ساهمت في تسليعها، وتحويلها إلى رموز استهلاكية لا تمتلك طاقة حقيقية على البناء والتجديد.

وقد تنبّه عدد من المفكرين إلى هذا الإشكال، فدعا مالك بن نبي إلى تجاوز مرحلة الاقتباس السلبي، والعمل على تحرير الإنسان المسلم من القابلية للاستعمار، لا فقط عبر المصاحبة مع الغرب، بل عبر بناء الذات من داخلها. كما انتقد محمد عابد الجابري البنية الفكرية للعقل العربي التي تتغذى من ثلاث مرجعيات متصارعة: النقل، والعقل، والبرهان، ما يولّد عقلية تلفيقية تعيق الإنتاج المعرفي المستقل.

حلم النهضة ومعضلة التبعية

حلم النهضة لم يكن وهماً أو ترفاً فكرياً، بل كان استجابة طبيعية لسؤال الانحطاط الذي لازم المجتمعات الإسلامية منذ سقوط الأندلس وتراجع المركزية الإسلامية في العالم. غير أن الطريق إلى النهضة لم يكن معبداً، فقد اصطدم بموانع داخلية وخارجية. فالداخل الإسلامي كان مثقلاً بإرث من الجمود والتقليد، وبنُظم استبدادية عطّلت التفكير والاجتهاد، وبمجتمعات أنهكها الجهل والفقر. أما الخارج، فقد تمثل في الاستعمار الذي لم يكتفِ بنهب الثروات، بل فرض أيضاً أنماط تفكير ومؤسسات سياسية واجتماعية غريبة عن البنية الثقافية الإسلامية.

وهكذا، أصبح حلم النهضة مشروطاً في نظر الكثيرين بمصالحة مع الحداثة الغربية، لكن دون وعي نقدي بطبيعة هذه الحداثة، ولا بأدوات إنتاجها. وغالباً ما تحولت هذه المصالحة إلى تبعية فكرية واقتصادية، فاعتمدت النخب على نقل النماذج الجاهزة، دون أن تتمكن من تكييفها مع السياقات المحلية. وبدلاً من أن يكون “النقل” مرحلة من مراحل التعلّم، تحول إلى إستراتيجية دائمة، مما أجهض القدرة على الإبداع الذاتي.

نحو تجاوز المصاحبة: تأسيس نهضة بديلة

لقد أثبت التاريخ الحديث أن النهضة لا تُبنى عبر التلفيق أو التوفيق بين عناصر متضادة، بل عبر إعادة بناء النسق الحضاري من الداخل، بمراجعة شجاعة للتراث، وفهم عميق لمكاسب الحداثة ومآزقها. وهذا يتطلب تفكيك البنية الذهنية التي تستبطن ثنائيات زائفة مثل: أصالة/معاصرة، شرق/غرب، تراث/حداثة، من أجل توليد نموذج معرفي قادر على إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والعالم، بين الفرد والجماعة، بين الدين والدولة.

ولعلّ الخطوة الأولى في هذا المسار تكمن في امتلاك الجرأة على الحسم الفكري، والانتقال من موقف “المصاحبة” إلى موقف “النقد”، لا بمعنى العداء للغرب أو التنكر للتراث، بل بمعنى الفحص العقلاني الذي لا يقدّس شيئاً، ولا يستنسخ شيئاً. كما يتطلب الأمر بناء مؤسسات معرفية وتعليمية تمتلك استقلاليتها وتوفر شروط الإبداع، لأن النهضة لا تُستورد بل تُنتج من داخل شروط اجتماعية واقتصادية وثقافية دقيقة.

كما يجب إدراك أن النهضة ليست لحظة تقنية أو اقتصادية فحسب، بل هي مشروع حضاري شامل، يتطلب إعادة بناء الإنسان، والقيم، والعلاقات الاجتماعية، والخيال الجماعي. وهذا لا يمكن أن يتم عبر استيراد أدوات وتقنيات، ولا عبر ترميم خطاب ديني تقليدي، بل عبر مشروع فكري وعملي ينطلق من سؤال الذات، ويستشرف المستقبل.

الخاتمة

مشكلة المصاحبة ليست مجرد إشكال فكري بين قديم وحديث، بل هي اختزال مأساوي لطموح مشروع نحو النهضة. وهي تعبير عن عجز حضاري عن الحسم، وعن أزمة هوية مستمرة، وعن مقاومة غير واعية للتجديد. وإذا كان حلم النهضة لا يزال ممكناً، فإن الشرط الأول لتحقيقه هو تجاوز منطق المصاحبة، والتأسيس لنموذج معرفي وحضاري جديد، تكون فيه الذات فاعلاً لا مفعولاً به، ومبدعاً لا ناقلاً، وناقداً لا مقلداً.

المصادر والمراجع

1. محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

2. مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، دمشق.