نجاح الزواج مسؤولية من؟!

يُعد الزواج من أهم الروابط الإنسانية التي نشأت مع بداية الوجود البشري، وهو ليس مجرد عقد قانوني يربط بين شخصين، بل هو ميثاق غليظ كما وصفه القرآن الكريم، يحمل في طياته معاني السكينة والمودة والرحمة. غير أن هذه العلاقة لا تُبنى على المشاعر وحدها، بل تحتاج إلى توازن دقيق بين الواجبات والحقوق، والاحترام المتبادل، والعمل المشترك على تجاوز الأزمات وتحقيق الاستقرار. ومع ازدياد التحديات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية في عالمنا المعاصر، أصبح من الضروري إعادة طرح السؤال الجوهري: من يتحمل مسؤولية نجاح الزواج؟ هل هي الزوجة فقط؟ أم الزوج وحده؟ أم أن المسؤولية موزعة؟ للإجابة العلمية والعملية عن هذا السؤال، لا بد من الغوص في أعماق هذه العلاقة الإنسانية وتحليل عناصرها ومقوماتها ومتطلباتها ومكامن خللها، واستقراء ما يقوله الفكر الإنساني والديني والنفسي والاجتماعي.

أولًا: مفهوم الزواج في ضوء المنظور الإنساني والديني

في الإسلام، يُنظر إلى الزواج على أنه علاقة مقدسة تهدف إلى بناء أسرة مستقرة، تحافظ على القيم الأخلاقية والاجتماعية وتساهم في بناء مجتمع متماسك. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة” [الروم: 21]. هذه الآية تلخص الغاية الجوهرية من الزواج: السكن، أي الطمأنينة، والمودة، أي المحبة العملية، والرحمة، أي العطاء المستمر رغم التقصير والاختلافات.

أما في الفكر الإنساني والاجتماعي، فالزواج هو نواة المجتمع، إذ يُعتبر أساسًا لبناء العلاقات الاجتماعية والتنظيم العائلي. وعليه، فإن استقراره لا يُعد شأنًا فرديًا، بل مسؤولية مشتركة تؤثر في استقرار المجتمع برمته.

ثانيًا: مسؤولية نجاح الزواج… بين الشراكة والتحميل الأحادي

يشيع في بعض الثقافات والأعراف الاجتماعية أن الزوجة هي الطرف الذي يتحمل العبء الأكبر في إنجاح العلاقة الزوجية. هذه النظرة التقليدية تتجاهل طبيعة العلاقة التبادلية في الزواج، والتي تقوم على الأخذ والعطاء، وتفرض على المرأة أن تكون الطرف المتنازل دومًا، المتسامح دائمًا، المتحمل لجميع الظروف والأزمات. في المقابل، تُمنح للرجل سلطة القرار وتُبرر أخطاؤه أحيانًا بوصفها طبيعة ذكورية أو ضغوطًا اجتماعية.

هذا التوزيع المختل للمسؤولية أدى إلى اختلال موازين الحياة الزوجية في العديد من البيئات، وساهم في ارتفاع معدلات الطلاق أو الانفصال العاطفي داخل العلاقة نفسها، حيث يستمر الزواج شكليًا فقط دون روح أو تواصل حقيقي.

إن نجاح الزواج لا يمكن أن يكون مسؤولية طرف واحد، بل هو مسؤولية مشتركة بين الزوج والزوجة، يتقاسمان فيها الأدوار ويؤديان واجباتهما في إطار من التعاون والاحترام والمرونة. الزوج مطالب بالمشاركة العاطفية والمادية والمعنوية، والزوجة مطالبة بالعطاء النفسي والدعم والرعاية، ولا يمكن لأحدهما الاستمرار دون الآخر.

ثالثًا: العوامل المشتركة لإنجاح الزواج

1. التواصل الفعال

يُعد التواصل حجر الأساس لأي علاقة ناجحة، وبالأخص في الزواج. إن القدرة على التعبير عن الأفكار والمشاعر بصدق واحترام، والاستماع بإنصات للطرف الآخر دون أحكام مسبقة، يخلق بيئة من الثقة والأمان. المشاكل لا تضر الحياة الزوجية بحد ذاتها، ولكن غياب الحوار البناء هو ما يؤدي إلى التراكمات والانفجارات العاطفية لاحقًا.

2. الاحترام المتبادل

الاحترام لا يعني فقط تجنب الإهانات أو التقليل من شأن الطرف الآخر، بل يشمل احترام آرائه، مشاعره، طموحاته، وحتى خصوصيته. العلاقة الزوجية الناجحة لا تنمو في بيئة يسودها التقليل أو التحكم، بل تزدهر في إطار من التقدير المتبادل والمساواة.

3. تقاسم الأدوار والمسؤوليات

من الأخطاء الشائعة في كثير من البيوت العربية تحميل طرف واحد – وغالبًا المرأة – كافة المسؤوليات المتعلقة بالمنزل، وتربية الأطفال، وإدارة الحياة اليومية. بينما الزوج يؤدي دوره خارج المنزل فقط. إن تقاسم المهام داخل البيت وخارجه يُشعر الطرفين بالعدالة والانتماء والشراكة، وهو ما يعزز الرضا الزوجي والاستقرار.

4. الصبر والتسامح

الزواج علاقة طويلة الأمد، تمر بمراحل مختلفة من المد والجزر، وتتخللها ضغوط الحياة اليومية. لذلك فإن التحلي بالصبر، والقدرة على المسامحة، وتجاوز الزلات، هو أمر أساسي لبقاء هذه العلاقة صحية ومتماسكة.

5. التوازن بين الحياة الزوجية والذات

العديد من الأزواج والزوجات يفقدون أنفسهم في دوامة المسؤوليات، ويهملون احتياجاتهم الفردية من تطور شخصي، وهوايات، وصداقات، وراحة نفسية. هذا الإهمال يؤدي إلى الاحتراق العاطفي، وهو من أسباب الفتور في الحياة الزوجية. الحفاظ على التوازن بين الذات والعلاقة ضروري لإدامة الحب والاحترام.

رابعًا: المسؤوليات النفسية والعاطفية في العلاقة الزوجية

لا تقتصر مسؤولية نجاح الزواج على الجوانب المادية أو السلوكية، بل تمتد إلى البعد النفسي والعاطفي. على كلا الطرفين أن يكون واعيًا لمشاعر الآخر، مدركًا لاحتياجاته العاطفية، داعمًا له في لحظات ضعفه وتردده. الزوج الذي لا يفهم لغة مشاعر زوجته، أو الزوجة التي لا تستوعب صراعات زوجها النفسية، يسهل أن يقع بينهما شرخ يصعب إصلاحه.

المسؤولية العاطفية تشمل القدرة على الاحتواء، خلق بيئة آمنة للتعبير، مشاركة الأفراح والأحزان، وتقديم الدعم النفسي المتبادل، لا سيما في الأوقات الحرجة مثل فقدان أحد الوالدين، فقدان وظيفة، مرض، أو فشل مهني.

خامسًا: عوامل خارجية تؤثر على نجاح الزواج

1. الضغوط الاقتصادية

تُعد الأزمات المالية من أبرز مسببات التوتر بين الأزواج، وسببًا رئيسيًا للخلافات. إن سوء إدارة الموارد المالية، أو عدم وضوح الأدوار المالية بين الزوجين، يؤدي إلى احتكاكات مستمرة. من هنا تنبع أهمية الحوار المالي الواضح، والتخطيط المشترك للنفقات والأهداف.

2. تدخلات الأهل

حينما تتداخل العائلة الممتدة في الحياة الزوجية، تصبح العلاقة عرضة للانهيار. لا بد أن يتفق الزوجان على رسم حدود واضحة لعلاقاتهما مع أسرهما، لضمان استقلالية قراراتهما.

3. البيئة الاجتماعية والثقافية

بعض البيئات تكرّس مفاهيم غير صحية عن الزواج، كأن يُعد الرجل “سيّدًا مطلقًا” أو يُعتبر التعبير عن المشاعر ضعفًا، أو تُمنع المرأة من اتخاذ قرارات حيوية. هذه المفاهيم تعرقل نجاح الزواج وتخلق اختلالًا وظيفيًا في العلاقة، ولا بد من مراجعة هذه الموروثات السلبية ومواجهتها بالوعي والمعرفة.

سادسًا: دور التربية والتنشئة في استعداد الأفراد للزواج

غالبًا ما تتشكل تصورات الفرد عن الزواج في طفولته، من خلال ما يراه في أسرته، وما يتلقاه من رسائل تربوية أو مجتمعية. الطفل الذي ينشأ في بيئة يسودها الاحترام المتبادل بين والديه، ويتعلم مهارات الحوار والتفاهم والتعاطف، يكون أكثر استعدادًا لنجاح العلاقة الزوجية مستقبلاً.

في المقابل، الشخص الذي ترسخت في ذهنه مفاهيم استبدادية أو عدوانية أو اتكالية، يكون عُرضةً لإعادة إنتاج نفس النمط في حياته الزوجية.

من هنا تبرز أهمية تضمين التربية الأسرية والمشورة الزوجية ضمن المناهج التعليمية والبرامج المجتمعية، كوسيلة وقائية لتعزيز نضج الأفراد قبل دخولهم في علاقة زواج.

سابعًا: الزواج كعقد قانوني وميثاق أخلاقي

رغم أن الزواج يُوثق بعقد قانوني في جميع الدول، إلا أن نجاحه لا يُحكم عليه فقط بالإجراءات القانونية، بل يرتكز على الالتزام الأخلاقي، والوفاء بالوعود، والصدق في العلاقة. فالقوانين قد تفرض حقوقًا وواجبات، لكنها لا تستطيع أن تُنبت الحب أو تمنع الجفاء أو تلزم أحد الطرفين بالوفاء الحقيقي. وحدها القيم الأخلاقية، والضمير الحي، هما ما يحافظ على العلاقة في وجه المصاعب.

ثامنًا: أثر نجاح الزواج على الأبناء والمجتمع

الزواج الناجح يُثمر أبناءً أصحاء نفسيًا، يشعرون بالأمان، ويكتسبون المهارات الاجتماعية والعاطفية السليمة. أما الزواج المضطرب، فيترك آثارًا عميقة في نفوس الأبناء، تمتد إلى سلوكياتهم، وتصوراتهم عن العلاقات المستقبلية.

المجتمعات التي تشهد ارتفاعًا في معدلات الطلاق أو التفكك الأسري تعاني من اضطرابات اجتماعية أوسع، مثل الجريمة، التسرب الدراسي، الاكتئاب، وانعدام الاستقرار. لذلك فإن الاستثمار في استقرار الزواج ليس شأناً فرديًا، بل مشروعًا اجتماعيًا بامتياز.

تاسعًا: جدول يوضح توزيع المسؤوليات الزوجية المثالية

خلاصة

نجاح الزواج لا يُمكن اختزاله في معادلة أحادية يُلقى فيها بالعبء على طرف واحد دون الآخر. هو ثمرة جهد متبادل، واحترام دائم، واستعداد للتحلي بالمسؤولية والمرونة. كل من الزوج والزوجة يتحملان نصيبهما من بناء هذا الكيان، مع إدراك عميق بأن الحب وحده لا يكفي، بل لا بد من دعم هذا الحب بأفعال يومية تثبته وتطوره. المسؤولية إذًا ليست ذكرًا أو أنثى، بل وعيًا ناضجًا، والتزامًا مشتركًا، واستعدادًا مستمرًا للنمو والتغيير.

المراجع:

1. محمد راتب النابلسي، الأسرة المسلمة، دار المنار، 2008.

2. John M. Gottman, The Seven Principles for Making Marriage Work, Harmony Books, 2015.