مراحل خلق الإنسان بالقرآن

مراحل خلق الإنسان في القرآن الكريم

لقد اهتمّ القرآن الكريم اهتمامًا بالغًا ببيان أصل خلق الإنسان وتطوّره، مُبيِّنًا ذلك بدقّة مذهلة توافق في جوهرها ما توصّل إليه العلم الحديث في علم الأجنّة والتكوين الجنيني، بل وتسبقه في الإشارة إلى بعض الحقائق التي لم تُكتشف إلا في العقود الأخيرة. إن القرآن الكريم لم يكتف بالإشارة إلى الأصل العام للخلق، بل قدّم توصيفًا تفصيليًا لمراحل تطوّر الجنين من النطفة وحتى اكتمال الخلق وبدء الحياة. وهذا البيان القرآني يشهد على إعجازه العلمي واللغوي والتشريعي، حيث تتكامل فيه العقيدة مع العلم.

المرحلة الأولى: التراب والطين والحمأ المسنون

تبدأ قصة خلق الإنسان في القرآن الكريم بالإشارة إلى أصل خلق آدم عليه السلام من التراب، وهو أصل البشر جميعًا، قال تعالى:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12]

وقال سبحانه:

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]

ويُلاحظ أن القرآن ذكر تعبيرات متعددة: الطين، التراب، الحمأ المسنون، الصلصال. وكل تعبير يُشير إلى مرحلة من مراحل تهيئة المادة التي خُلق منها آدم عليه السلام:

• التراب: أصل التكوين.

• الطين: التراب المختلط بالماء.

• الحمأ المسنون: الطين المتغيّر.

• الصلصال كالفخار: الطين اليابس المجوف.

وهذه المرحلة تعبّر عن الخلق الأول، وهي خاصة بخلق آدم، الذي خُلق من طين لازب، كما في قوله تعالى:

{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]

المرحلة الثانية: النطفة

بعد أن خُلق آدم من طين، جعل الله نسله من سلالة من ماء مهين، وهو النطفة، كما قال تعالى:

{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ} [السجدة: 8]

وقال أيضًا:

{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2]

النطفة في اللغة هي القطرَة من السائل، والأمشاج تعني المختلطة، أي اختلاط ماء الرجل بماء المرأة. وتُعبّر النطفة عن المرحلة الأولى في التكوين الجنيني، وهي مرحلة تلقيح البويضة بالحيوان المنوي.

وقد أشار القرآن بدقّة إلى كون النطفة تُوضَع في قرار مكين، أي الرحم، كما في قوله:

{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} [المؤمنون: 13]

المرحلة الثالثة: العلقة

بعد النطفة، تتحوّل البويضة الملقحة إلى علقة، قال تعالى:

{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14]

والعلقة في اللغة تعني الشيء المعلّق، أو الدم المتجمّد. وقد فُسّرت بأنها قطعة دم تتعلّق بجدار الرحم.

والتسمية القرآنية دقيقة، فخلال هذه المرحلة، يتكوّن الجنين ويبدأ بالالتصاق بجدار الرحم، ويتحوّل إلى كتلة من الخلايا تشبه قطعة دم متجلطة، ثم تبدأ عملية الانغراس.

المرحلة الرابعة: المضغة

بعد العلقة، تأتي مرحلة المضغة، كما قال تعالى:

{فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون: 14]

والمضغة في اللغة هي القطعة التي يمكن مضغها، أي بحجم يمكن للإنسان مضغه. ووصف المضغة ينطبق على المرحلة التي يُصبح فيها الجنين كتلة لحميّة، ذات تقسيمات تشبه آثار الأسنان.

وقد وصفها الله أيضًا بأنها مضغة مخلّقة وغير مخلّقة:

{ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]

وهو إشارة إلى الانقسام بين الأنسجة المتمايزة والأخرى غير المتمايزة.

المرحلة الخامسة: العظام

يبدأ الجنين بعد مرحلة المضغة في التشكّل الهيكلي، فتظهر بدايات الهيكل العظمي، كما قال تعالى:

{فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون: 14]

وفي هذه المرحلة، يبدأ تكوين الهيكل العظمي للجنين، وتظهر العظام كبُنى مميزة في جسم الجنين.

المرحلة السادسة: كساء العظام باللحم

بعد أن تتكوّن العظام، يُغطيها اللحم، كما يُشير القرآن الكريم:

{فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14]

وهو ترتيب دقيق لما توصّل إليه العلم؛ إذ أن الأنسجة العضلية تتكون بعد العظام في عملية نمو الجنين. ويُعبّر الكسوة هنا عن إحاطة العضلات بالعظام بصورة دقيقة.

المرحلة السابعة: النشأة خلقًا آخر

تأتي بعد اكتمال البنية الجسمانية للجنين، مرحلة “النشأة خلقًا آخر”، وهي المرحلة التي يبدأ فيها التخصّص العضوي الوظيفي، ونفخ الروح في الجنين، كما في قوله تعالى:

{ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]

وقد فسّر العلماء هذه المرحلة بأنها بداية ظهور الإنسان بكل خصائصه، جسدًا وروحًا. وهي مرحلة إدخال الروح الإنسانية، والانتقال من مجرد مادة مخلوقة إلى كائن حيّ يتحرّك بإرادة.

المرحلة الثامنة: مرحلة الحَمْل والولادة

بعد اكتمال الخلق، يُكمل الجنين نموّه في رحم الأم حتى موعد الولادة، وقد أشار القرآن إلى مدة الحمل والرضاعة في أكثر من موضع، منها:

{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]

وقال أيضًا:

{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]

وهو تعبير دقيق يشير إلى الحدّ الأدنى للحمل (ستة أشهر) والرضاعة (أربعة وعشرون شهرًا).

المرحلة التاسعة: النشأة بعد الولادة والنمو

لم يغفل القرآن مراحل ما بعد الولادة، فقد تحدّث عن نمو الإنسان وتطوّره وبلوغه واكتمال قواه، كما في قوله تعالى:

{ثُمَّ يَخْرُجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [غافر: 67]

وفي قوله:

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54]

وهي إشارات واضحة إلى الطفولة، فسنّ البلوغ، فالشباب، ثم الهرم والضعف، حتى النهاية.

المرحلة الأخيرة: الوفاة والبعث

ينتهي مسار حياة الإنسان بالوفاة، ثم يُبعث من جديد في اليوم الآخر، وقد قال تعالى:

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]

وهو تسلسل بياني يربط بين أصل الخلق، ومراحل الحياة، والموت، ثم البعث والحساب.

جدول تفصيلي لمراحل خلق الإنسان حسب القرآن الكريم

خاتمة

لقد جاء بيان مراحل خلق الإنسان في القرآن الكريم جامعًا بين الإعجاز البياني والدقة العلمية، بطريقة تعجز العلوم المادية عن محاكاتها رغم التقدم الهائل في علم الأجنّة. ولعل هذا البيان الربّاني لم يكن لمجرد الإخبار، بل غايته تذكير الإنسان بأصله وهويته ومآله، ليكون ذلك باعثًا على التواضع والخشوع، وإدراك حقيقة وجوده في الكون ومسؤوليته أمام خالقه.

المراجع:

• تفسير الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن.

• زغلول النجار، “الإعجاز العلمي في خلق الإنسان”، دار المعرفة، بيروت، 2004.