مراحل تكون شخصية الطفل
تعتبر عملية تكوين شخصية الطفل من أبرز المواضيع التي شغلت اهتمام علماء النفس والتربية لعقود طويلة، لما لها من تأثير عميق في حياته المستقبلية. تتشكل الشخصية منذ مراحل الطفولة المبكرة، وتتأثر بعدد من العوامل الوراثية والبيئية، التي تشمل الأسرة، المحيط الاجتماعي، والتجارب الشخصية التي يمر بها الطفل. إن فهم مراحل تكون شخصية الطفل يعد مفتاحًا لفهم سلوكه وتوجيهه بشكل صحيح، كما يتيح للآباء والمربين تطوير طرق تربوية تتماشى مع الاحتياجات النفسية والتربوية لكل مرحلة من مراحل نمو الطفل.
المرحلة الأولى: من الولادة إلى سن السنة
تعد المرحلة الأولى من الحياة، أي من الولادة إلى سن السنة، مرحلة حاسمة في تكون شخصية الطفل. في هذه المرحلة، يكون الطفل معتمدًا كليًا على والديه أو مقدمي الرعاية من أجل تلبية احتياجاته الأساسية. يتمثل العامل الأهم في هذه المرحلة في تكوين علاقة عاطفية بين الطفل ووالديه أو مقدم الرعاية، والتي تسمى “الارتباط العاطفي” أو “التعلق”. يُظهر الطفل في هذه المرحلة ردود فعل بسيطة تجاه بيئته المحيطة به، مثل الابتسامة أو البكاء، ويبدأ في التعرف على أشكال الوجه والأصوات والأشياء المحيطة به.
أحد العوامل الرئيسية التي تؤثر في نمو شخصية الطفل في هذه المرحلة هو تلبية احتياجاته الجسدية والنفسية. إذ يؤدي إشباع هذه الاحتياجات إلى الشعور بالأمان والراحة النفسية، مما يساهم في بناء الثقة بالنفس. وفقًا لنظريات التحليل النفسي التي طرحها سيغموند فرويد، فإن هذه المرحلة تسمى مرحلة “الفم” حيث يكون الفم هو مصدر الاستكشاف الأساسي، وهذا يساعد الطفل في تكوين انطباعات أولية حول العالم.
المرحلة الثانية: من سن السنة إلى سن الثلاث سنوات
تعد هذه المرحلة من أهم مراحل نمو شخصية الطفل، حيث يبدأ في اكتساب مزيد من الاستقلالية، ويتعلم المشي والتحدث. في هذه المرحلة، يتسم الطفل بالفضول والنشاط الزائد، ويظهر في سلوكه رغبة في استكشاف البيئة المحيطة به. يصبح الطفل في هذا العمر أكثر وعيًا بذاته، مما يساهم في تكوين صورة شخصية مبدئية عن نفسه.
يبدأ الطفل في هذه المرحلة أيضًا بتطوير اللغة، وهي من أهم العوامل التي تؤثر في تشكيل شخصيته. اللغة هي وسيلة الاتصال الأولى، ومن خلالها يعبر الطفل عن رغباته ومشاعره. كما تبدأ عملية التمييز بين الذات والآخرين، حيث يعبر الطفل عن مشاعره بشكل واضح سواء كانت سلبية أو إيجابية. عند تفاعل الطفل مع والديه ومع من حوله، تبدأ شخصية الطفل في التشكل تدريجياً، حيث تكتسب مشاعره ومعتقداته تصورات مبكرة عن العلاقات الاجتماعية.
من الجانب النفسي، يقول جون بولبي، أحد رواد نظرية التعلق، إن التعلق العاطفي في هذه المرحلة يكون له دور محوري في تحديد مدى قدرة الطفل على بناء علاقات مستقرة وآمنة في المستقبل. فإذا كانت العلاقة مع الوالدين داعمة ومستقرة، فإن الطفل يكتسب ثقة بالنفس تؤثر بشكل إيجابي على نمو شخصيته.
المرحلة الثالثة: من سن الثلاث سنوات إلى سن الست سنوات
في هذه المرحلة، يبدأ الطفل في إظهار المزيد من الاستقلالية، وتزداد قدرته على التعبير عن مشاعره ورغباته. كما تتطور مهاراته الاجتماعية بشكل ملحوظ، حيث يصبح قادرًا على التفاعل مع الأطفال الآخرين بشكل إيجابي. يبدأ الطفل في اكتساب مهارات التعاون ومهارات اللعب الجماعي، ويبدأ في فهم الفرق بين الصواب والخطأ بشكل أبسط.
على الصعيد المعرفي، فإن هذه المرحلة تشهد تطورًا كبيرًا في قدرة الطفل على التفكير، حيث تبدأ قدراته الإدراكية في النمو وتزداد معرفته بالعالم من حوله. هذا النمو العقلي يقوده إلى بناء ملامح الشخصية المستقلة. في هذه المرحلة، يمر الطفل بما يسميه علماء النفس بـ “مرحلة التمرد”، حيث يرفض التعليمات ويسعى للحصول على الاستقلالية، ما قد يؤدي إلى صدامات مع الوالدين.
من الجوانب النفسية المهمة في هذه المرحلة، هو تأثير العلاقات الأسرية على بناء الثقة بالنفس لدى الطفل. إذا كان الطفل في هذه المرحلة يتعرض للانتقادات المستمرة أو الإهمال، فقد يبدأ في تطوير مشاعر من عدم الأمان الداخلي وضعف تقدير الذات.
المرحلة الرابعة: من سن الست سنوات إلى سن الثانية عشرة
تعتبر هذه المرحلة من أكثر المراحل تأثيرًا في تكوين شخصية الطفل، حيث يكتسب الطفل مهارات عقلية واجتماعية أكثر تقدمًا. يبدأ الطفل في المدرسة في هذه المرحلة، وتبدأ شخصيته في التشكّل بشكل أكبر من خلال التفاعل مع معلميه وزملائه. يظهر في هذه الفترة اهتمام الطفل بالإنجازات والتقدير من المحيطين به، ما يعزز من شعوره بالثقة.
المهارات العقلية في هذه المرحلة تتطور بسرعة، مما يساعد الطفل على فهم العلاقات الاجتماعية والقيم الأخلاقية بشكل أعمق. يبدأ الطفل في تكوين هويته الفردية واختيار الأنشطة والاهتمامات التي تتناسب مع شخصيته. تتأثر هذه المرحلة بشكل كبير بالعلاقات بين الطفل والمعلمين والأصدقاء، حيث تبدأ مشاعر القبول أو الرفض في التأثير على شخصية الطفل بشكل كبير.
من الناحية النفسية، يمر الطفل في هذه المرحلة بما يسمى “مرحلة الإحساس بالإنجاز”، التي ترتبط بالقدرة على النجاح في المهام والأنشطة الاجتماعية. تظهر في هذه المرحلة مفاهيم مثل الانضباط الذاتي، الاستقلالية، والتعاون.
المرحلة الخامسة: من سن الثانية عشرة إلى سن الخامسة عشرة
هذه هي مرحلة المراهقة المبكرة، التي تشهد تغيرات هرمونية وجسدية كبيرة تؤثر بشكل عميق على شخصية الطفل. يبدأ الطفل في هذه المرحلة في إظهار استجابة أكثر تطورًا للمشاعر والأفكار الذاتية، حيث يشهد المراهق اضطرابات في الهوية والرغبة في التميز. تزداد الصراعات الداخلية في هذه المرحلة، حيث يعبر المراهق عن رغباته في الاستقلالية والتعبير عن الذات.
كما تصبح العلاقات الاجتماعية أكثر تعقيدًا في هذه المرحلة، إذ يبدأ المراهق في التفاعل بشكل أعمق مع أقرانه والمجتمع المحيط به، ما يؤدي إلى تكوين هوية اجتماعية متكاملة. تتميز هذه المرحلة أيضًا بالبحث عن معايير جديدة، حيث يسعى المراهق إلى إيجاد مكانه في المجتمع، سواء من خلال الانضمام إلى مجموعة اجتماعية معينة أو تبني سلوكيات وأفكار جديدة.
المرحلة السادسة: من سن الخامسة عشرة إلى سن الثامنة عشرة
يتم في هذه المرحلة استكمال تكوين الهوية الشخصية، حيث يبدأ المراهق في تجربة أفكار وقيم جديدة بشكل متعمق، محاولًا تحديد مسار حياته المستقبلية. تتزايد في هذه المرحلة الصراعات النفسية الداخلية، حيث يسعى المراهق إلى الانفصال عن الوالدين في بعض الأحيان. تسهم التجارب الجديدة والضغوط الاجتماعية في تشكيل القيم والأهداف التي سيتم تبنيها في مرحلة البلوغ.
مع اكتمال تطور هوية المراهق، يصبح أكثر قدرة على اتخاذ القرارات التي تؤثر في مستقبله، سواء على صعيد التعليم أو العلاقات الاجتماعية. الشخصية في هذه المرحلة تصبح أكثر نضجًا، ولكن ما يزال يتعين على المراهق مواجهة التحديات المتعلقة بتطوير استقلاله وبناء علاقاته الاجتماعية بشكل فعال.
الختام
إن تكون شخصية الطفل هو عملية معقدة ومتواصلة، تبدأ منذ لحظة ولادته وتستمر عبر مختلف مراحل نموه. تتداخل العوامل البيئية والوراثية في تشكيل هذه الشخصية، وتؤثر بشكل مباشر في سلوكه وتفاعلاته مع الآخرين. من خلال الفهم العميق لهذه المراحل، يمكن للآباء والمربين تقديم الدعم والرعاية اللازمة للطفل، مما يساهم في تطوير شخصيته بشكل سليم ومتوازن.
