مراحل الخلق في الحديث النبوي

شرح الحديث الرابع من الأربعين النووية: مراحل الخلق

يُعدّ الحديث الرابع من «الأربعين النووية» للإمام النووي من الأحاديث الجامعة التي تحتوي على أصول عظيمة من أصول الإيمان، وتعرض حقائق متعلقة بمراحل الخلق، والقدر، وأسرار التكوين البشري. فهو حديث عظيم يدل على عمق التشريع الإسلامي وتكامل مفاهيمه العقدية والطبية والاجتماعية، كما يعكس الصلة الوثيقة بين العلم والدين في الإسلام. وهذا الحديث يتضمن شرحًا دقيقًا لمراحل تكوين الإنسان في بطن أمه، ويُبرز أثر القدر والقضاء في حياة البشر، بالإضافة إلى إثبات مسؤولية الإنسان عن أفعاله.

نص الحديث

روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:

حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال:

“إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها؛ وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها”.

رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643).

أولاً: أهمية الحديث في البناء العقدي

يُعتبر هذا الحديث من الأحاديث التي تُؤسس لمفاهيم عقدية جوهرية تتعلق بالإيمان بالقدر والإيمان بعلم الله الأزلي، وهو كذلك من الأحاديث التي أُدرجت ضمن «جوامع الكلم» النبوي، لما احتواه من معانٍ عظيمة تتعلق بخلق الإنسان، ومسيرة حياته، وعلاقته بالقدر، ومصيره في الآخرة.

ثانيًا: مراحل الخلق كما وردت في الحديث

1. النطفة (أربعون يومًا)

قال النبي ﷺ: “يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة”، وهذا يتوافق مع المرحلة الأولى من الحمل والتي تسمى “المرحلة النطفية”، حيث تلتقي النطفة (الحيوان المنوي) بالبويضة فتتكون “الزيجوت”، ثم تنغرس في الرحم وتبدأ عملية الانقسام والنمو. تستمر هذه المرحلة لما يقارب أربعين يومًا.

2. العلقة (أربعون يومًا)

ثم يكون علقة مثل ذلك، أي لمدة أربعين يومًا أخرى. والعلقة في اللغة هي الشيء المعلّق، كما تشير أيضًا إلى الدم الغليظ المتجمد. في هذه المرحلة يتطور الجنين إلى شكل يشبه قطعة دم، ويتعلق بجدار الرحم عن طريق المشيمة، ويبدأ بأخذ المواد الغذائية من الأم.

3. المضغة (أربعون يومًا)

ثم يكون مضغة مثل ذلك، أي لمدة أربعين يومًا ثالثة. والمضغة تُشبه قطعة من اللحم الممضوغ، وهذا وصف دقيق لما عليه الجنين في هذه المرحلة، حيث يأخذ شكلاً متعرجًا وكأنّه قد مُضغ، ويتمايز فيه بعض الأعضاء.

وبذلك نكون أمام 120 يومًا يُجمع فيها الجنين في ثلاث مراحل، كل منها أربعون يومًا، ثم تأتي المرحلة الأهم والأكثر تأثيرًا في كيانه ومصيره.

ثالثًا: نفخ الروح وكتابة المقادير

نفخ الروح

قال النبي ﷺ: “ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح”. وهذا الحدث الجليل يتم بعد مرور مئة وعشرين يومًا من الحمل، وهو ما أشار إليه العلماء في فتاوى عديدة متعلقة بأحكام الإجهاض.

كتابة المقادير الأربعة

ثم يُؤمر الملك بأربع كلمات:

1. رزقه: ما كُتب له من الرزق في حياته، من مأكل ومشرب وأموال.

2. أجله: كم سيعيش من السنوات، متى سيموت وأين.

3. عمله: أفعاله وأعماله في الدنيا، وهل سيكون صالحًا أم فاسدًا.

4. شقي أو سعيد: وهذا يعكس خاتمة أمره، هل يُختم له بالسعادة (دخول الجنة) أم بالشقاء (دخول النار).

هذا الجانب من الحديث يرسّخ مفهوم الإيمان بالقضاء والقدر، ويُفهم أن العلم الإلهي سابق شامل، وأن الله سبحانه يعلم ما سيكون عليه الإنسان من البداية، ولكن لا يسلبه حرية الإرادة والاختيار.

رابعًا: تفسير “فيعمل بعمل أهل الجنة… ثم يعمل بعمل أهل النار”

هذه الجملة من الحديث قد تثير التباسًا في فهم البعض، فكيف لإنسان أن يعمل بعمل أهل الجنة ثم يدخل النار؟

فسر العلماء هذا الجزء بقولهم إن “عمل أهل الجنة” هنا قد يكون عملًا ظاهريًا لا يخرج من القلب، أو أنه لم يكن خالصًا لله، أو أن الخاتمة لم تكن على خير. وهذا يُبرز أهمية الإخلاص والثبات، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يُقلبها كيف يشاء.

وقد ورد في بعض روايات مسلم:

“فيما يبدو للناس”، أي أن ظاهر أعماله كانت صالحة، لكن باطنه كان فاسدًا.

وفي المقابل، قد يعمل الإنسان بعمل أهل النار، لكنه يُختم له بخير، فيتوب توبة نصوحًا، ويقبل الله منه ويُغيّر حاله، فيُكتب من أهل الجنة.

خامسًا: دلالات الحديث العلمية والطبية

يتفق الحديث مع كثير من الاكتشافات العلمية الحديثة في علم الأجنة، فقد أشار إلى تطور الجنين في ثلاث مراحل متتالية، وهي النطفة، العلقة، ثم المضغة، وهو ما تم تأكيده في الطب المعاصر، وخاصة في دراسات علم الأجنة الحديث. الجدول التالي يُوضح توافق الحديث النبوي مع مراحل التطور الجنيني كما وردت في المصادر الطبية:

سادسًا: الآثار الإيمانية للحديث

1. تعظيم خلق الله

يدفعنا الحديث إلى التفكر في عظمة الخالق وقدرته، وكيف يُكوّن الإنسان في أطوار دقيقة في بطن أمه، من خلية إلى إنسان حي.

2. الإيمان بالقضاء والقدر

من الأركان الستة للإيمان، وهو ما يُؤكده الحديث بوضوح، حيث يُثبت أن ما يحدث للإنسان من رزق وأجل وعمل هو بعلم الله السابق وكتابه في اللوح المحفوظ.

3. أهمية الإخلاص والثبات على الطاعة

لا يكفي العمل الظاهري، بل ينبغي أن يكون العمل خالصًا لله، وأن يظل الإنسان ثابتًا على الخير حتى آخر لحظة من حياته.

4. التوبة والرجاء

الحديث يفتح باب الرجاء أمام العصاة، فحتى من كان عمله في ظاهره شرًا، قد يُكتب له حسن الخاتمة إذا تاب، ويُبدّل الله سيئاته حسنات.

سابعًا: علاقة الحديث بالأخلاق والسلوك

هذا الحديث يدعو الإنسان إلى تجديد النية باستمرار، ومراجعة سلوكه وأعماله، والتضرع إلى الله بأن يُثبّته على الحق، وأن يُحسن خاتمته. كما يعلّم المؤمن التواضع، وعدم الاغترار بالأعمال الظاهرة، لأن القلوب هي التي تُوزن عند الله.

ثامنًا: التطبيقات الفقهية للحديث

1. أحكام الإجهاض

بُني على هذا الحديث العديد من الأحكام الشرعية المتعلقة بالإجهاض، حيث ذهب كثير من العلماء إلى أنه يجوز قبل نفخ الروح، أي خلال الـ120 يومًا الأولى، مع وجود مبرر شرعي معتبر. أما بعد نفخ الروح، فلا يجوز إلا في حالات نادرة جدًا تقتضيها الضرورة الشرعية.

2. أهمية نية العمل

الحديث يؤكد أن العبرة بخواتيم الأعمال، وأن النية الصادقة قد تُغيّر مصير الإنسان، كما في من عمل بعمل أهل النار ثم خُتم له بعمل أهل الجنة.

خاتمة

يُعد الحديث الرابع من الأربعين النووية أحد أعمدة الحديث النبوي التي تعكس بجلاء توازن الإسلام بين العقيدة والعلم والسلوك. فهو يجمع بين علوم الدين والدنيا، ويؤصل لفهم سليم لمراحل الخلق الإنساني، ويُغذي قلب المؤمن بمفاهيم الإيمان بالقدر، والعمل الصالح، والخوف من سوء الخاتمة، والرجاء في رحمة الله.

إنه حديث يستحق أن يُحفظ، ويُفهم، ويُتدبر، لما فيه من معانٍ تربوية، وعقدية، وطبية، واجتماعية عظيمة، تُظهر إعجاز السنة النبوية، وتُجلي شمولية الإسلام.

المراجع:

1. صحيح البخاري، حديث رقم 3208

2. صحيح مسلم، حديث رقم 2643