شرح حديث مراتب الدين: دراسة موسعة في مقاصد الحديث وأبعاده
في عالمنا المعاصر، يتزايد الاهتمام بفهم وتعميق المعرفة الدينية، خاصة مع تنوع المذاهب واختلاف الآراء حول كيفية فهم الدين في سياق الحياة اليومية. من بين الأحاديث النبوية التي تتناول مراتب الدين وأسس فهمه الحديث المعروف بحديث “مراتب الدين”، الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وورد في عدة روايات شريفة. يبين هذا الحديث عدة مراتب يرتقي فيها المسلم في طريقه إلى الله تعالى، وهذه المراتب هي: الإسلام، الإيمان، والإحسان. يعتبر هذا الحديث من الأحاديث المركزية في فقه العقيدة والتزكية، لأنه يعبر عن أساسيات التصور الإسلامي حول الدين والعلاقة بالله سبحانه وتعالى.
مفهوم مراتب الدين
الحديث النبوي الذي يوضح مراتب الدين يعتبر مرجعًا غنيًا لفهم العلاقة بين الأعمال القلبية والأعمال الظاهرة في ديننا الحنيف. الحديث هو: “الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا. والإيمانُ أن تؤمنَ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدر خيره وشره. والإحسانُ أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
هذا الحديث يُظهر أن الدين الإسلامي لا يقتصر على سلوكيات الظاهر فقط، بل يتعداها إلى الباطن، حيث يقوم على التوازن بين الاعتقاد، العبادة، والسلوك الإنساني، ومن خلال هذا الحديث، نجد أن الدين يتألف من ثلاثة مراتب رئيسية: الإسلام، والإيمان، والإحسان.
أولًا: مرتبة الإسلام
تُعتبر مرتبة الإسلام الأساس الذي يقوم عليه الدين، وهي التي تشير إلى الامتثال للأعمال الظاهرة التي يظهرها المسلم، وتُعبّر عن أول مرحلة في علاقة الإنسان بالله تعالى. في هذا السياق، يشير الحديث إلى مجموعة من الأركان الأساسية التي من خلالها يثبت الإسلام في قلب المؤمن:
-
الشهادتان: الإيمان بوحدانية الله ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي النقطة المركزية في كل دين. الشهادتان لا تعني فقط النطق بهما، بل تستلزم الإيمان بهما قلبًا وعملًا، ليكون المسلم قد أقر في قلبه وعقله أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
-
إقامة الصلاة: الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عبادة فكرية وروحية تبدأ من الإنسان نفسه وتمر عبر أبعاده الجسدية. إذ يعتبر المسلم الصلاة بمثابة علاقة مباشرة بينه وبين الله، تعبيرًا عن التواضع والخضوع لله تعالى.
-
إيتاء الزكاة: الزكاة هي فرض من فرائض الإسلام، وهي توضح الجانب الاجتماعي للإسلام من خلال تطهير المال وتوزيعه على المحتاجين. الزكاة، بهذا الشكل، تربط بين الأبعاد الفردية والاجتماعية في فهم الدين، مما يشير إلى تفاعل المؤمن مع المجتمع على أسس من التعاون والتكافل.
-
صيام رمضان: يشكل الصيام في شهر رمضان الركن الرابع الذي يعزز في المؤمن التقوى. يُعتبر الصيام وسيلة لتزكية النفس من الشهوات وتعليمها الصبر والمرونة في مواجهة التحديات.
-
الحج: الحج إلى بيت الله الحرام، ركن آخر من أركان الإسلام، ويُعد محطة سنوية تعكس التوحد بين المسلمين في عبادتهم، حيث يجتمع المسلمون من مختلف بقاع الأرض في عبادة واحدة.
إذن، تكون مرتبة الإسلام هي الأساس الذي يُبنى عليه الدين في مظاهره الخارجية. وهي تشمل الأعمال الظاهرة التي يجب على المسلم أن يلتزم بها من أجل الإيمان بالإسلام والعمل به.
ثانيًا: مرتبة الإيمان
مرتبـة الإيمان تمثل قمة الفهم العقدي والتصديق القلبي بما جاء في الشريعة. فهي تتجاوز الأفعال الظاهرة إلى أبعاد أعمق تتعلق بما يعتقده المسلم في قلبه وذهنه. تُعبّر مرتبة الإيمان عن التعلق القلبي بالله ورسله وكل ما جاء به. في الحديث النبوي، يتم تحديد المكونات الأساسية للإيمان:
-
الإيمان بالله: الإيمان بوحدانية الله وفرادته في الملك والخلق، وأساس هذا الإيمان هو التوحيد، إذ يشمل الإيمان بأن الله هو الخالق المدبر لجميع شؤون الحياة والكون.
-
الإيمان بالملائكة: يؤمن المسلمون بوجود الملائكة، وهم كائنات من نور خلقها الله لتقوم بمهام معينة في الكون، مثل كتابة الأعمال وحفظ البشر وإبلاغ الرسائل الإلهية.
-
الإيمان بالكتب: يُؤمن المسلمون بأن الله قد أرسل كتبًا سماوية لهداية البشر، مثل التوراة، الإنجيل، والقرآن، وكلها تلتقي في دعوة واحدة إلى عبادة الله وحده واتباع شرعه.
-
الإيمان بالرسل: يؤمن المسلمون بأن الله قد أرسل رسلًا من البشر ليبلغوا الناس برسالاته، ويُعد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل.
-
الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالآخرة أحد أسس العقيدة الإسلامية، حيث يعتقد المسلمون أن هذه الحياة الدنيا هي مرحلة مؤقتة، وأن هناك حياة بعد الموت.
-
الإيمان بالقدر: يشمل الإيمان بأن كل ما يحدث في الكون هو بتقدير الله، سواء كان خيرًا أو شرًا، وأن الله قد علم ما سيكون قبل أن يحدث.
مرتبة الإيمان هي مرتبة قلبية وعقلية تتطلب تصديقًا قاطعًا واستسلامًا تامًا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشريعة الإسلامية. وتعد مرتبة الإيمان امتدادًا طبيعيًا لمرتبة الإسلام، حيث يُحسن المسلم من خلاله فهم مرامي الشريعة وأهدافها.
ثالثًا: مرتبة الإحسان
مرتبة الإحسان هي أرقى مراتب الدين، حيث لا تقتصر فقط على الأعمال الظاهرة أو الإيمان القلبي، بل تشمل المستوى الروحي الأعلى الذي يتجسد في العبادة الخالصة والمثالية لله سبحانه وتعالى. الإحسان هو أن يقوم المسلم بأداء العبادات والأعمال الخيرية في حالة من الوعي التام بأن الله سبحانه وتعالى يراه. وهذه هي مرتبة الإحسان كما ورد في الحديث الشريف: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. في هذا السياق، تعني مرتبة الإحسان أن المسلم لا يؤدي عباداته فقط من باب الواجب، بل يؤديها بصدق وإخلاص شديدين، وكأن قلبه يرى الله سبحانه وتعالى أمامه، مما يزيد من تقواه وحسن عمله.
الإحسان يتجاوز أداء الفروض إلى التميز في الأداء، إذ يتحقق عندما يكون المسلم في كل فعل من أفعاله، سواء كان عبادة أو معاملة مع الآخرين، في حالة من الخشوع والتدبر والنية الطيبة. هذه المرتبة تتطلب مراقبة دقيقة للنفس، وإخلاصًا في العبادة، واحتسابًا لله في كل شيء.
التكامل بين مراتب الدين
إن مراتب الدين الثلاثة تشكل نظامًا متكاملاً، حيث لا يمكن لأي مرتبة أن تكون كاملة دون الأخرى. مرتبة الإسلام تبني الأساسيات العملية والظاهرة للدين، ومرتبة الإيمان تضيف البُعد العقدي والقلبي، بينما مرتبة الإحسان تمثل أعلى درجات الطهارة الروحية والإخلاص. جميع هذه المراتب متكاملة ولا يمكن لأي منها أن تُفصل عن الأخرى.
الإسلام هو المدخل إلى الدين، والإيمان هو الإيمان الراسخ الذي يربط القلب بالعقيدة، والإحسان هو الكمال الذي يوجه المسلم ليعيش في حالة من الارتباط التام بالله في جميع أفعاله.
خاتمة
حديث مراتب الدين ليس مجرد رواية دينية تقليدية، بل هو دليل شامل لفهم الدين في شمولية أبعاده المختلفة: الظاهرة، القلبية، والروحية. إن فهم هذه المراتب بعمق يعين المسلم على السير في طريق التزكية والارتقاء في درجات التقوى، مما يساعده في الاقتراب من الله في جميع جوانب حياته.
