مدرسة الماتريدية: أصول وعقيدة

الماتريدية: نشأتها، عقيدتها، وأثرها في الفكر الإسلامي

مقدمة

الماتريدية هي إحدى المدارس الكلامية الكبرى في الإسلام السني، وقد لعبت دورًا محوريًا في تشكيل معالم العقيدة الإسلامية لدى عدد كبير من المسلمين، خاصة في المناطق التي سادت فيها الدولة العباسية ثم السلجوقية والعثمانية. نشأت الماتريدية في أواخر القرن الثالث الهجري وبداية الرابع، على يد الإمام أبي منصور الماتريدي السمرقندي، الذي أسهم في توضيح مسائل العقيدة، وبيان أصول الإيمان والرد على الفرق المخالفة كالمعتزلة والجهمية والخوارج.

نشأة الماتريدية والسياق التاريخي

برزت مدرسة الماتريدية في بيئة كانت حافلة بالتيارات الفكرية والفلسفية المتنوعة، لا سيما في منطقة ما وراء النهر، حيث كانت بغداد آنذاك مركزًا علميًا عالميًا يحتضن مختلف الفرق والتيارات من إسلامية وغير إسلامية. وُلد الإمام أبو منصور الماتريدي في سمرقند في أواخر القرن الثالث الهجري، وتتلمذ على عدد من علماء الحنفية، وخصوصًا على تلامذة الإمام أبي حنيفة النعمان، وهو ما يفسر تأثره بأصول الفقه الحنفي وطريقة أهل الرأي.

أصول العقيدة عند الماتريدية

يمكن تلخيص العقيدة الماتريدية في مجموعة من الأصول العقدية التي ميزتها عن غيرها من المدارس الكلامية، خاصة الأشعرية والمعتزلية:

1. إثبات وجود الله بالعقل
   
   الماتريدية يُقرّون بأن العقل قادر على إدراك وجود الله تعالى ومعرفة بعض صفاته الأساسية كالوحدانية والقدرة والعلم، دون الحاجة للنقل، غير أن تمام المعرفة لا تكون إلا بالوحي. ومن هذا المنطلق، خالفوا الحشوية والمجسمة الذين يرفضون الخوض العقلي، كما خالفوا المعتزلة الذين جعلوا العقل حاكمًا مطلقًا في الدين.

2. الصفات الإلهية
   
   يؤمن الماتريدية بأن لله صفات أزلية قائمة بذاته، لا هي عين الذات ولا غيرها، وينفون التشبيه والتجسيم. ومن أبرز الصفات التي يثبتونها: العلم، القدرة، الحياة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام. وهم يميزون بين الصفات الذاتية والفعلية، ويُرجعون الصفات الفعلية إلى تعلق الصفات الذاتية بالمخلوقات، دون أن يثبتوا حدوثًا في ذات الله.

3. القرآن وكلام الله
   
   يعتقد الماتريدية بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو صفة من صفاته الأزلية، وأن التعبير الملفوظ هو حادث لكنه يدل على كلام الله الأزلي، وهي طريقة وسط بين القول بخلق القرآن كما عند المعتزلة والقول بأن الألفاظ والأصوات أزلية كما عند بعض المجسمة.

4. رؤية الله
   
   يقر الماتريدية بإمكانية رؤية الله تعالى في الآخرة، وهو ما يخالف المعتزلة الذين ينكرون ذلك بدعوى أن الله ليس بجسم، والماتريدية يثبتون الرؤية بدون تكييف أو تمثيل، مؤكدين أن الرؤية لا تستلزم الجهة أو الحد أو المقابلة.

5. مرتكب الكبيرة
   
   يسير الماتريدية على منهج أهل السنة في القول بأن مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق، وليس بكافر كما تقول الخوارج والمعتزلة. ويؤمنون بأن الحكم في الآخرة إلى الله، إن شاء عذبه بعدله وإن شاء غفر له بفضله.

6. القدر والحرية الإنسانية
   
   يؤمن الماتريدية بأن العبد فاعل لأفعاله حقيقة، والله خالق لها. وهم يرفضون الجبر المحض كما يرفضون القول بأن الإنسان يخلق أفعاله كما تقول المعتزلة. هذه النظرية المعروفة بالكسب تجعلهم في موقع وسط بين الجبرية والقدريّة.

الفرق بين الماتريدية والأشاعرة

رغم التشابه الكبير بين الماتريدية والأشاعرة، وخاصة في الرد على المعتزلة والمجسمة، إلا أن بين المدرستين خلافات دقيقة، منها:

أهم كتب الماتريدية

من أبرز الكتب التي أرست دعائم المذهب الماتريدي وشرحته:

• كتاب التوحيد لأبي منصور الماتريدي: وهو أهم كتب العقيدة عند الماتريدية، ويتميز بمنهج عقلاني علمي متين، ويُعد ردًا على الجهمية والمعتزلة.

• شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، رغم أنه ليس ماتريديًا، لكنه يُستخدم أحيانًا لتقريب المفاهيم المقارنة.

• المواقف في علم الكلام للإيجي، وشرحه للشريف الجرجاني، وهو من المتون المعتمدة لدى الماتريدية.

• شرح المقاصد للتفتازاني، ويُعد من الكتب المرجعية التي تمثل نضج المدرسة الماتريدية في العصور المتأخرة.

انتشار الماتريدية جغرافيًا

انتشرت العقيدة الماتريدية في مناطق آسيا الوسطى، ثم في الهند، والأناضول، والبلقان، والمناطق التي خضعت للحكم العثماني. وارتبطت المدرسة الماتريدية بالمذهب الحنفي ارتباطًا وثيقًا، إذ اعتمدت الدول الإسلامية الكبرى مثل الدولة العثمانية والدولة المغولية في الهند العقيدة الماتريدية رسميًا، مما عزز انتشارها.

علاقة الماتريدية بالحنفية

المذهب الحنفي في الفقه والعقيدة الماتريدية في الأصول غالبًا ما كانا متلازمين. فكما بُني الفقه الحنفي على الاستنباط والاستدلال وتقديم الرأي عند غياب النص الصريح، كذلك اعتمدت الماتريدية على العقل والبرهان، متأثرة بإرث أبي حنيفة الذي كان أول من كتب في العقيدة على منهج عقلاني واضح في كتابه الفقه الأكبر. ومن هنا، أصبحت الحنفية والماتريدية وجهين لتقليد علمي واحد في الفقه والكلام.

أثر الماتريدية في الفكر الإسلامي

قدّمت الماتريدية نموذجًا متزنًا في التفكير العقدي، استطاع أن يحافظ على النصوص الشرعية دون تعطيل، وفي ذات الوقت اعتمد العقل كوسيلة لفهم الدين والدفاع عنه. هذا التوازن منح المدرسة الماتريدية قوة في مواجهة التيارات الفكرية والفلسفية، خاصة المعتزلة من جهة، والمجسمة والحشوية من جهة أخرى.

وكان لفكر الماتريدية الأثر الكبير في ضبط العقائد لدى عامة المسلمين، خاصة في المناطق التي تبنّت الدولة فيها هذا المذهب رسميًا، ما جعله ركيزة تعليمية في المدارس الدينية، ولا سيما في الحواضر الكبرى كسمرقند، وبخارى، وإسطنبول، ودلهي.

الماتريدية في العصر الحديث

رغم انحسار تأثير المدارس الكلامية التقليدية في العصر الحديث نتيجة تغلغل الفكر الغربي والتيارات العقلانية الحديثة، فإن الماتريدية ما زالت تحافظ على حضورها من خلال الجامعات الشرعية، وخاصة في تركيا والهند وبعض المناطق في آسيا الوسطى. كما تمثّل مصادر الماتريدية مادة غنية للباحثين في مجال العقيدة، وتُدرّس في عدد من الكليات الشرعية ضمن مقررات العقيدة والفكر الإسلامي.

خاتمة

الماتريدية ليست مجرد فرقة كلامية تقليدية، بل هي مدرسة عقلية رصينة قدّمت خدمة جليلة للفكر الإسلامي عبر قرون من التأصيل والبيان والرد على الشبهات. وتُمثّل الماتريدية مع الأشعرية جناحي العقيدة السنية التي حافظت على التوازن بين العقل والنقل، والوسطية بين الإفراط والتفريط، مما جعلها حجر الزاوية في عقيدة أهل السنة والجماعة.

المراجع

1. الماتريدي، أبو منصور. كتاب التوحيد. تحقيق: فتح الله خليف، دار الجامعة الليبية، 1970.

2. التفتازاني، سعد الدين. شرح المقاصد في علم الكلام. دار المعارف النعمانية، لاهور، باكستان.