تقبيل الأطفال: محبذ اجتماعياً ومرفوض صحياً

يُعدّ تقبيل الأطفال من الممارسات الاجتماعية الشائعة والمتجذرة في معظم الثقافات حول العالم، ويُنظر إليه على أنه تعبير عميق عن الحب والحنان والرعاية. كثير من الآباء والأمهات والأقارب يميلون إلى تقبيل الأطفال، خاصة الرضع، على الوجه أو الشفاه كدلالة على الارتباط العاطفي والمودة. ومع أن هذه العادة تُعدّ مقبولة ومحبّذة اجتماعياً، إلا أن الأبحاث والدراسات الطبية تشير إلى أن لها تبعات صحية خطيرة، وقد تُشكّل تهديداً حقيقياً على صحة الطفل في مراحل نموه الأولى. فالفجوة بين ما هو محبّذ اجتماعياً ومقبول ثقافياً، وما هو آمن صحياً وطبياً، تستدعي إعادة نظر في هذه العادة، خصوصاً في ضوء المعطيات العلمية التي تكشف عن مخاطر انتقال الفيروسات والبكتيريا إلى الأطفال عبر التقبيل.

الجذور الاجتماعية والنفسية لتقبيل الأطفال

يكتسب تقبيل الأطفال بعداً عاطفياً عميقاً في مختلف الثقافات. فالمجتمع العربي، على سبيل المثال، يُولي أهمية كبيرة لتعبير الآباء والأمهات عن حبّهم لأطفالهم من خلال التلامس الجسدي، لا سيما التقبيل. ويُنظر إلى التقبيل بوصفه طقساً من طقوس الحنان يُعزز من الترابط الأسري والانتماء. كما أن التقبيل يُمثل أداة من أدوات التهدئة والطمأنينة بالنسبة للأطفال الرضع، الذين يستشعرون الأمان من خلال قربهم الجسدي من والديهم.

لكن ما يجب الإشارة إليه أن هذا السلوك الحميم، على الرغم من فوائده النفسية والعاطفية، لا يخلو من عواقب صحية قد تكون خطيرة، خصوصاً في حالات معينة كضعف مناعة الطفل أو وجود أمراض فيروسية نشطة لدى الشخص البالغ الذي يقوم بالتقبيل.

المخاطر الصحية المرتبطة بتقبيل الأطفال

الطفل، خاصة خلال الأشهر الأولى من حياته، يتميز بجهاز مناعي غير مكتمل، مما يجعله أكثر عرضة للإصابة بالأمراض. وتقبيل الطفل، وخصوصاً على الفم أو الوجه، يمكن أن يكون سبباً مباشراً في نقل العديد من الأمراض المعدية. فيما يلي استعراض لأهم المخاطر الصحية المرتبطة بتقبيل الأطفال:

1. فيروس الهربس البسيط (HSV-1)

يُعدّ فيروس الهربس البسيط من أخطر الفيروسات التي يمكن أن تُنقل للرضع عن طريق التقبيل، حتى وإن لم تظهر أعراض المرض بشكل واضح على الشخص البالغ. قد يصاب الطفل بالتهاب في الدماغ أو التهابات جلدية خطيرة نتيجة لهذا الفيروس. في الحالات الشديدة، قد يؤدي الهربس الوليدي إلى الوفاة أو إعاقة دائمة، خاصة إذا لم يتم تشخيصه وعلاجه في الوقت المناسب.

2. البكتيريا العقدية الرئوية (Streptococcus pneumoniae)

تقبيل الأطفال من قبل أشخاص مصابين بعدوى بكتيرية في الجهاز التنفسي يمكن أن ينقل هذه البكتيريا إلى الطفل، مما يؤدي إلى أمراض خطيرة مثل التهاب السحايا أو التهاب الرئة أو تسمم الدم. هذه الأمراض يمكن أن تكون مهددة للحياة عند الأطفال حديثي الولادة.

3. فيروس الإنفلونزا وفيروسات الزكام

الأشخاص المصابون بأعراض برد أو إنفلونزا قد لا يُدركون مدى خطورة تقبيل طفل في هذه الحالة. إذ يمكن أن ينتقل الفيروس عبر اللعاب أو عن طريق الرذاذ البسيط، ويُصاب الطفل بالعدوى، وهو ما قد يُسبب مضاعفات خطيرة له، خاصة إذا كان عمره أقل من 6 أشهر.

4. فيروس كورونا (SARS-CoV-2)

أوضحت جائحة كورونا أهمية التباعد الاجتماعي والحذر في التفاعل الجسدي، وبيّنت مدى سرعة انتقال الفيروسات عبر التلامس والتقبيل. وقد أدت هذه الجائحة إلى رفع مستوى الوعي العام بأهمية تجنّب تقبيل الأطفال من قبل الغرباء أو الأشخاص المشتبه بإصابتهم بأي مرض تنفسي.

5. مرض القُبلة (فيروس إبشتاين-بار EBV)

هو مرض فيروسي يُعرف طبيًا باسم “داء كثرة الوحيدات العدوائية”، ويمكن أن يُنقل عن طريق اللعاب، ويصيب الأطفال والمراهقين على حد سواء. على الرغم من أن الأعراض قد تكون خفيفة في بعض الأحيان، إلا أنها قد تتطور إلى مضاعفات تشمل الطحال والكبد والجهاز التنفسي.

الفئات الأكثر عرضة للخطر

تزداد خطورة تقبيل الأطفال بالنسبة لفئات معينة من الرُضّع والأطفال، وتشمل:

• الأطفال حديثو الولادة (أقل من 6 أشهر): جهازهم المناعي لا يزال غير مكتمل، وهم عرضة للالتهابات القاتلة.

• الأطفال الذين وُلدوا قبل الأوان (الخدّج): مناعتهم أضعف بكثير من أقرانهم، وأجسامهم أقل قدرة على مقاومة الفيروسات.

• الأطفال الذين يعانون من أمراض مزمنة أو اضطرابات في الجهاز المناعي: مثل الأطفال المصابين بنقص المناعة الأولي أو مرضى السرطان.

• الأطفال غير المطعمين: بعض الأمراض التي يتم الوقاية منها باللقاحات لا يزالون عرضة لها في حال لم يُكملوا جداول التطعيم.

أهمية التوعية الصحية لتغيير السلوك الاجتماعي

التعامل مع تقبيل الأطفال باعتباره عادة اجتماعية غير ضارة هو جزء من ثقافات عديدة، إلا أن المعطيات الطبية تتطلب إعادة تشكيل هذا السلوك من خلال التوعية المستمرة والتثقيف الصحي. ويُعدّ الإعلام الصحي والأسري والمدرسي أداة فعالة في نشر المعرفة حول مخاطر التقبيل، وضرورة الامتناع عنه خصوصاً في الحالات الصحية الحرجة.

الإجراءات الوقائية للحد من المخاطر

لتقليل احتمالية انتقال العدوى من الكبار إلى الأطفال، خاصة الرضع، يجب اعتماد عدد من الإجراءات الوقائية تشمل:

• تجنب تقبيل الأطفال على الفم أو الوجه، خاصة من قبل غير الوالدين.

• غسل اليدين جيداً قبل ملامسة الطفل.

• عدم السماح بملامسة الطفل من قبل أشخاص تظهر عليهم أعراض الإنفلونزا أو أي مرض معدٍ.

• التأكد من أن الزائرين المطعمين فقط يُسمح لهم بملامسة الطفل، خاصة في الأشهر الأولى.

• استخدام الكمامات في حالة وجود أعراض تنفسية خفيفة لدى الكبار حول الطفل.

• تعليم الأطفال الأكبر سنًا أهمية النظافة الشخصية وعدم تبادل الألعاب أو الأغراض الشخصية مع الآخرين.

التوازن بين العاطفة والوعي الصحي

من المؤكد أن تقبيل الطفل يمثل لحظة عاطفية جميلة، إلا أن هذا التعبير يجب أن لا يُغلّب على السلامة الصحية. لا يتطلب الأمر التخلي عن المشاعر، بل فقط إعادة توجيهها بطرق أكثر أماناً. يمكن التعبير عن الحب والحنان من خلال اللمس اللطيف، الكلمات الدافئة، الحضن، والنظر الحنون، دون الحاجة إلى ملامسة وجه الطفل أو فمه.

دور المؤسسات الطبية والتربوية

يتحمل القطاع الطبي والتربوي دوراً محورياً في ترسيخ مفاهيم السلامة الصحية لدى الآباء والأمهات. ويمكن للمراكز الصحية أن تُقدم ورش توعوية لتثقيف الأمهات الجدد بخطورة بعض العادات الاجتماعية، كما يمكن للمدارس ورياض الأطفال أن تُدرّس مبادئ الصحة والنظافة من سن مبكرة. كما يجب على وسائل الإعلام أن تبتعد عن تصوير التقبيل بوصفه السلوك الأمثل للتعبير عن المحبة، وأن تُبرز البدائل الصحية لذلك.

أمثلة من حالات واقعية

وثّقت بعض المؤسسات الصحية حالات خطيرة لأطفال أصيبوا بأمراض مهددة للحياة نتيجة تقبيلهم من قبل أفراد يحملون فيروسات دون أعراض. ففي المملكة المتحدة، أُصيب طفل يبلغ من العمر ثلاثة أسابيع بفيروس الهربس وتوفي بعد أيام قليلة من ولادته، وقد تبيّن أنه التقط الفيروس من أحد الزائرين الذين قبّلوه على وجهه. هذه الحالات، على الرغم من أنها قد تبدو نادرة، إلا أنها تسلّط الضوء على العواقب الحقيقية لسلوك شائع اجتماعيًا.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين العوامل الاجتماعية والطبية لتقبيل الأطفال:

الخلاصة

تقبيل الأطفال عادة إنسانية دافئة، لكنها يجب أن تُمارس بحذر ووعي صحي عالٍ. بين العاطفة والحذر، يبقى الأمان الصحي للأطفال أولوية لا يمكن التهاون بشأنها. فمع التقدّم العلمي والمعرفة المتاحة، لا بد من تعديل بعض الممارسات المجتمعية بما يخدم مصلحة الطفل، ويوفر له بيئة آمنة للنمو والتطور.

المراجع:

1. Mayo Clinic – Infant health & infections (https://www.mayoclinic.org/)

2. Centers for Disease Control and Prevention (CDC) – Herpes Simplex Virus (HSV) Overview (https://www.cdc.gov/)