محمد الغزالي: العالم والمفكر الإسلامي المجدد

يُعَدُّ الشيخ محمد الغزالي السقا (1917–1996) من أبرز علماء ومفكري الإسلام في القرن العشرين، وهو أحد أعلام التجديد الديني والفكري في العالم العربي والإسلامي. تميزت مسيرته الفكرية بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، فكان مدافعًا عن روح الإسلام الحية، منتقدًا للجمود والتحجر، ومنافحًا عن الفكر الوسطي المعتدل الذي يجمع بين الإيمان بالعقيدة والانفتاح على تطورات العصر. يُصنف الغزالي ضمن طليعة المفكرين الذين سعوا لإحياء الفكر الإسلامي من خلال العودة إلى مقاصده وروحه، وليس مجرد التعلق بقشوره أو مظاهره الشكلية.

النشأة والبدايات

وُلد محمد الغزالي في قرية نكلا العنب بمحافظة البحيرة في جمهورية مصر العربية عام 1917، ونشأ في بيئة ريفية متدينة، كان لها أثر عميق في تشكيل شخصيته الروحية والدينية. منذ صغره، أبدى ميولًا قوية نحو العلم والدين، فحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، والتحق بالأزهر الشريف حيث نهل من علوم الشريعة واللغة العربية والتفسير والفقه وأصول الدين.

تخرج من كلية أصول الدين بالأزهر عام 1941، وهناك التقى بأفكار عديدة كان لها أثر كبير في توجهاته الفكرية اللاحقة، لا سيما تأثره العميق بالإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حيث التحق بالجماعة في سن مبكرة وشارك في أنشطتها الدعوية والفكرية، غير أن مساره الفكري فيما بعد اتخذ طابعًا أكثر استقلالية وتميزًا.

المسيرة العلمية والفكرية

بدأ الغزالي حياته المهنية كداعية ومدرس في معاهد الأزهر، ثم عُين في وزارة الأوقاف، واشتغل بالتدريس والخطابة والكتابة. تنقّل في عدة مناصب تعليمية وإدارية ودعوية، منها عمله في الجزائر بعد الاستقلال، حيث أسهم في تأسيس النهضة الإسلامية هناك، وأثر في كثير من العلماء والمفكرين الجزائريين، ثم عُين أستاذًا في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، كما حاضر في عدة جامعات عربية.

اتسم فكره بالجمع بين النص الديني والاجتهاد العقلي، وكان يرى أن الدين الإسلامي ليس مجرد طقوس وعادات، بل منظومة متكاملة من القيم والمبادئ التي يمكن أن تقود المجتمعات إلى النهوض الحضاري. من هنا، حمل على عاتقه مهمة إعادة قراءة التراث الإسلامي بفكر نقدي متزن، بعيدًا عن السلفية المتجمدة أو التغريب المتفلت.

منهجه في التجديد

تقوم رؤية الغزالي في التجديد الإسلامي على قاعدة صلبة تتمثل في فهم الإسلام من منطلق مقاصدي، أي أن الغاية من النصوص الشرعية هي تحقيق المصلحة ودفع الضرر، وليس التمسك الحرفي بظاهر النص دون إدراك السياق أو روح الشريعة.

تميز خطابه بكونه دعويًا إصلاحيًا وليس خطابًا تكفيرياً أو صدامياً، وكان يركز على أمرين أساسيين:

• إحياء الفكر الإسلامي من خلال تحريره من الجمود والتقليد، وتقديمه بصورته الحضارية الحية.

• مواجهة التيارات الإلحادية والعلمانية التي تنكر صلة الدين بالحياة العامة.

وفي الوقت ذاته، لم يكن الغزالي مغلقًا على نفسه، بل انفتح على التراث الفلسفي الإنساني، وقرأ المدارس الفكرية الغربية، وناقشها من منطلق عقلاني إسلامي. لم يكن ناقمًا على الغرب جملة وتفصيلاً، بل كان ناقدًا له عندما يتعارض مع المبادئ الإسلامية، ومتعاطفًا معه عندما يقدم شيئًا مفيدًا للبشرية، مثل قيم الحرية والعدالة والتنمية.

أهم مؤلفاته

ترك محمد الغزالي تراثًا ضخمًا من الكتب والدراسات التي بلغ عددها نحو 94 كتابًا، تُعد مرجعًا مهمًا في الفكر الإسلامي المعاصر، وقد تُرجِمت كثير من أعماله إلى عدة لغات. ومن أبرز مؤلفاته:

تميزت كتابات الغزالي بلغة أدبية رفيعة، وروح دعوية عذبة، ومعالجة عقلانية للموضوعات الفكرية والشرعية، بعيدًا عن التطرف أو الغلو. كان حريصًا على إيصال المعاني بلغة مفهومة للقارئ المسلم المعاصر، دون أن يُسطّح المعاني أو يفرّغها من عمقها.

موقفه من القضايا المعاصرة

المرأة

كان الغزالي من أبرز الدعاة إلى إنصاف المرأة في الخطاب الإسلامي. رفض النظرة التقليدية التي تحصر المرأة في إطار ضيق، ودعا إلى إعادة قراءة النصوص الشرعية المتعلقة بالمرأة في ضوء المقاصد الكلية للإسلام. لم يكن يؤيد الانفلات من الضوابط الشرعية، لكنه رفض في الوقت ذاته الجمود الذي يختزل المرأة في كونها فتنة أو عورة.

الحريات

من أعظم ما ميّز فكر محمد الغزالي هو دفاعه القوي عن حرية الرأي والعقيدة. رفض القمع باسم الدين، ودعا إلى أن يكون الإسلام قوة تحرير لا أداة استبداد. وقف ضد الاستبداد السياسي، وانتقد الأنظمة القمعية التي كانت تستغل الدين لتبرير القهر. وقد كتب في هذا السياق كثيرًا، ومن أشهر مقولاته:

“ليس في الإسلام كهنوت، ولا وساطة بين الإنسان وربه، فليس لأحد أن يُكره أحدًا على الإيمان أو على طريق فهم معين للإيمان.”

الوحدة الإسلامية

كان الغزالي داعية لوحدة الأمة الإسلامية، وسعى إلى تجسير الفجوة بين الفرق والمذاهب الإسلامية، مؤمنًا بأن الإسلام يستوعب الجميع ما داموا يلتزمون بأركانه وروحه. لم يكن معنيًا بالخلافات الطائفية أو الجدالات الفقهية العقيمة، بل كان يدعو إلى العمل المشترك من أجل بناء أمة قوية قادرة على مواجهة تحديات العصر.

رؤيته للحضارة الإسلامية

من أبرز إسهامات الغزالي الفكرية تحليله لأسباب تخلف المسلمين، حيث رأى أن الانحطاط ليس نابعًا من تعاليم الإسلام، بل من سوء فهم المسلمين لدينهم، وتعلقهم بالمظاهر دون الجوهر. في كتابه “تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل”، شنّ نقدًا عنيفًا على الجمود الفكري والفقهي الذي هيمن على عقول كثير من العلماء، مما حوّل الدين إلى عائق أمام التقدم بدل أن يكون دافعًا له.

كان يرى أن الحضارة الإسلامية يمكن أن تنهض مجددًا إذا عاد المسلمون إلى القرآن الكريم والسنة النبوية بروح تجديدية عقلانية، وتركوا التعصب والتقليد، وتسلّحوا بالعلم والعمل.

انتقاداته لتيارات إسلامية

على الرغم من انتمائه المبكر لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن الغزالي لم يتردد في نقد بعض ممارسات التيار الإسلامي، خاصة ما يتعلق بجنوح بعض فصائله إلى العنف أو التكفير أو الانغلاق. رفض أن تتحول الدعوة الإسلامية إلى صراع سياسي، ودعا إلى أن تظل في جوهرها حركة إصلاح أخلاقي وروحي واجتماعي.

كما وجّه انتقادات إلى ما أسماه بـ”الخطاب السلفي الجامد”، الذي لا يفرق بين الوسائل والمقاصد، ويتمسك بظاهر النص دون فقه الواقع.

وفاته وإرثه الفكري

توفي الشيخ محمد الغزالي في 9 مارس 1996 أثناء مشاركته في مؤتمر حول الإسلام والغرب في السعودية، حيث وافته المنية أثناء إلقاء كلمته في المؤتمر، وهو ما اعتُبر نهاية مشرفة لرجل قضى عمره في خدمة الدعوة الإسلامية والكلمة الصادقة.

ترك الغزالي أثرًا بالغًا في الفكر الإسلامي، وما زالت كتبه تدرّس وتُناقش في الجامعات والمراكز الفكرية، وتؤثر في أجيال من العلماء والمفكرين. وتُعد رؤيته لفهم الإسلام من منطلق العقل والمقاصد، وليس من خلال القوالب الجاهزة أو التعصب، من أعظم إسهاماته في عصر ساد فيه التطرف والجمود.

الخاتمة

يشكل الشيخ محمد الغزالي نموذجًا فريدًا للعالم الرباني الذي جمع بين علم الشريعة وعقلانية الفكر وحرارة الدعوة. لم يكن فقيهًا تقليديًا ولا مفكرًا متفلسفًا، بل كان مجددًا سعى إلى بث الروح في جسد الأمة، وإيقاظ الوعي الجمعي للمسلمين بقيم دينهم العليا. مثلت حياته خطًا بيانيًا لفكر إصلاحي ناضج، ومنهجًا وسطيًا تفتقده كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة. سيظل تراث الغزالي منارة تهتدي بها العقول الباحثة عن نور الحق، ومرجعًا لكل من يريد أن يفهم الإسلام في صورته الحضارية الإنسانية المتجددة.

المراجع:

1. الغزالي، محمد. جدد حياتك. دار الشروق، القاهرة، طبعات متعددة.

2. الغزالي، محمد. السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث. دار الشروق، القاهرة، 1989.