في أي عمر يمشي الطفل: تطور المشي عند الرضع من منظور علمي شامل

يُعد المشي إحدى العلامات الفارقة في نمو وتطور الطفل، ويمثل لحظة فارقة ينتظرها الأهل بفارغ الصبر، كونها تؤشر إلى الانتقال من مرحلة الرضاعة إلى بدايات الاستقلال الحركي. ورغم أن هذه الخطوة تبدو بسيطة على السطح، إلا أن المشي يُعد من أعقد المهارات الحركية التي يكتسبها الإنسان في مراحل تطوره الأولى. يتطلب الأمر نضجًا عصبياً وتطورًا عضليًا وتناسقًا حركيًا كبيرًا، وهو ما يحدث بشكل تدريجي خلال السنة الأولى والثانية من حياة الطفل.

يختلف سن المشي من طفل إلى آخر، ولا يوجد عمر محدد قاطع يمكن اعتباره معيارًا عالميًا، إذ تتداخل عوامل عديدة في تحديد هذا السن مثل العوامل الوراثية، البيئة المحيطة، التغذية، والتحفيز الحركي. غير أن الدراسات والبيانات السريرية تشير إلى نطاقات عمرية يمكن من خلالها فهم توقيتات المشي الطبيعية والتعرف على الحالات التي تستدعي المتابعة الطبية.

التطور الحركي الطبيعي للطفل

تُبنى القدرة على المشي تدريجيًا من خلال مراحل متسلسلة ومنظمة تبدأ منذ الولادة، وتشمل:

1. التحكم بالرأس (من 0 إلى 3 أشهر)

في هذه المرحلة يبدأ الطفل بتقوية عضلات الرقبة تدريجيًا، حيث يتمكن عند عمر الشهرين تقريبًا من رفع رأسه أثناء استلقائه على بطنه. هذه الخطوة ضرورية لتطور السيطرة العضلية التي تمكّنه لاحقًا من الجلوس والوقوف.

2. الجلوس المستقل (من 4 إلى 7 أشهر)

عند اقتراب الطفل من عمر 6 أشهر، يصبح قادرًا على الجلوس دون دعم، وهو مؤشر مهم على تطور العضلات الأساسية التي تدعم العمود الفقري والحوض. الجلوس هو القاعدة التي ينطلق منها الطفل نحو الحبو والوقوف.

3. الحبو أو الزحف (من 6 إلى 10 أشهر)

يبدأ الطفل في استخدام ذراعيه وساقيه للزحف أو الحبو، ويُعد ذلك تمرينًا فعّالًا لتقوية الأطراف وتنسيق الحركة بين الجانبين الأيمن والأيسر من الجسم، مما يُسهم في بناء التناسق العصبي العضلي الضروري للمشي.

4. الوقوف بمساعدة أو دونها (من 9 إلى 12 شهرًا)

مع نهاية السنة الأولى من العمر، يتمكن العديد من الأطفال من الوقوف وهم مستندون إلى الأثاث أو بمساعدة الأهل. بعض الأطفال يتمكنون من الوقوف لفترات قصيرة دون دعم، وهو تمهيد للمشي.

5. الخطوات الأولى (من 10 إلى 15 شهرًا)

في هذا العمر يبدأ الطفل عادة بمحاولات المشي الأولى، وغالبًا ما تكون خطوات مترددة وغير متزنة. قد يمشي البعض مبكرًا عند عمر 9 أشهر، بينما قد يتأخر آخرون حتى عمر 18 شهرًا، وجميعها تعتبر ضمن النطاق الطبيعي.

في أي عمر يمشي الطفل عادةً؟

تشير الإحصاءات المستمدة من منظمات الصحة العالمية والأكاديميات الطبية المختصة بطب الأطفال إلى أن غالبية الأطفال يبدأون المشي بشكل مستقل في الفترة ما بين 12 إلى 15 شهرًا. ومع ذلك، فإن المشي بين 9 إلى 18 شهرًا يُعد طبيعيًا من الناحية السريرية ولا يُعد تأخرًا في النمو ما لم يصاحبه تأخر في مهارات حركية أخرى.

جدول: تطور مهارة المشي حسب العمر (بيانات تقريبية)

العوامل المؤثرة في توقيت المشي

1. العوامل الوراثية

تلعب الوراثة دورًا كبيرًا في تحديد توقيت المشي، حيث لوحظ أن الأطفال الذين مشى آباؤهم في أعمار مبكرة يميلون إلى المشي مبكرًا كذلك. العوامل الجينية تتحكم في تركيب العضلات، سرعة النضج العصبي، ومستوى التناسق العضلي العصبي.

2. التغذية

التغذية السليمة تلعب دورًا أساسيًا في نمو الجهاز العصبي وتطور العظام والعضلات. نقص العناصر الأساسية مثل الكالسيوم، فيتامين د، الحديد والزنك قد يؤثر على القوة العضلية وقدرة الطفل على الوقوف والمشي.

3. البيئة المحفزة

الأطفال الذين يعيشون في بيئة محفزة يتعرضون فيها لحوافز حركية وتشجيع على الزحف والوقوف والمشي، يميلون إلى اكتساب هذه المهارات بشكل أسرع. اللعب على الأرض، استخدام الألعاب المساعدة للمشي، والمشاركة مع أطفال آخرين تُعزز من التطور الحركي.

4. التحفيز الزائد أو التقييد

التحفيز الزائد باستخدام المشايات قد يؤدي أحيانًا إلى تأخير المشي، بسبب اعتماد الطفل عليها بدلًا من تقوية عضلاته وتعلم الاتزان. كذلك، الأطفال الذين يُقيّدون لفترات طويلة (مثل البقاء في المقاعد أو الأسرّة) قد يتأخرون في المشي.

5. الحالة الصحية العامة

بعض الأمراض أو الحالات الصحية مثل الشلل الدماغي، اضطرابات النمو العضلي، أو تأخر النمو العصبي قد تؤخر أو تمنع الطفل من المشي في العمر المتوقع.

متى يُعتبر تأخر المشي حالة طبية تستدعي المتابعة؟

رغم أن الكثير من الأطفال يبدؤون المشي في أعمار مختلفة، إلا أن تأخر المشي بعد عمر 18 شهرًا يعتبر مؤشراً يجب أخذه بجدية. في حال تجاوز الطفل عمر 18 شهرًا دون أي محاولات للمشي، خاصة إذا ترافق ذلك مع:

• ضعف في التحكم في الجذع أو الرأس

• غياب الحبو أو الزحف

• صعوبات في استخدام الساقين أو الذراعين

• تاريخ ولادة مبكرة أو مشاكل صحية سابقة

ينبغي حينها استشارة طبيب الأطفال وإجراء التقييمات العصبية والحركية اللازمة لاستبعاد أي اضطرابات في النمو.

كيف يمكن دعم الطفل لتعلم المشي؟

1. منحه وقتًا كافيًا للعب على الأرض

يُفضل تشجيع الطفل على اللعب والزحف على الأرض بدلاً من وضعه لفترات طويلة في المقاعد أو العربات. اللعب الحر يُعزز من تقوية العضلات وتطوير المهارات الحركية.

2. استخدام الألعاب المشجعة على الوقوف

استخدام الطاولات الصغيرة والألعاب التي تستدعي الوقوف للوصول إليها يُحفّز الطفل على الوقوف بمفرده ومن ثم المشي.

3. التوازن بين التشجيع والحذر

من الضروري خلق بيئة آمنة يتحرك فيها الطفل بحرية مع تقليل فرص السقوط والإصابات، وفي الوقت ذاته تشجيعه على المحاولة دون الضغط عليه.

4. الامتناع عن استخدام المشايات

توصي الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بعدم استخدام مشايات الأطفال نظرًا لارتباطها بزيادة خطر الإصابات وتأخر التطور الحركي.

الفروقات الطبيعية بين الأطفال

تجدر الإشارة إلى أن الفروقات في توقيت المشي بين الأطفال الأصحاء تُعد ظاهرة طبيعية، ولا ترتبط دائمًا بأي مشكلة صحية. الطفل الذي يمشي في عمر 18 شهرًا قد يكون طبيعيًا تمامًا كمن مشى في عمر 10 أشهر، شريطة أن تكون بقية التطورات الحركية والنفسية والاجتماعية ضمن النطاقات الطبيعية.

أثر المشي على النمو النفسي والاجتماعي

عند بداية المشي، يمر الطفل بتغيرات نفسية كبيرة، فالمشي يُعزز من ثقته بنفسه ويزيد من قدرته على التفاعل مع محيطه. يتزامن ذلك عادة مع طفرات في اللغة والاستكشاف والتفاعل الاجتماعي، مما يجعل من المشي نقطة تحول محورية في حياة الطفل.

المشي وعلاقته بنمو الدماغ

تشير الدراسات العصبية الحديثة إلى أن تعلم المشي يرتبط بتحفيز أجزاء مختلفة من الدماغ، بما في ذلك المخيخ والقشرة الحركية. تعلم المشي يُسهم في تطوير الاتزان، الاستجابة الحسية، والمرونة العصبية، وهي جميعها مؤشرات على النمو السليم للجهاز العصبي المركزي.

خلاصة علمية

المشي مرحلة حرجة في نمو الطفل لكنها ليست مفاجئة، بل هي نتيجة لتطورات متسلسلة تبدأ منذ الأيام الأولى للولادة. ورغم أن غالبية الأطفال يمشون بين عمر 12 إلى 15 شهرًا، فإن المشي قبل أو بعد هذا النطاق الزمني لا يُعد بالضرورة غير طبيعي. المهم هو التقييم الشامل لنمو الطفل، ومتابعة باقي المهارات الحركية والمعرفية.

التركيز على تقديم بيئة محفزة، تغذية متوازنة، ومتابعة طبية دورية يضمن للطفل فرصة مثالية لاكتساب مهارات المشي وغيرها من المهارات الحركية الأساسية.

المراجع:

1. American Academy of Pediatrics. Developmental Milestones. www.healthychildren.org

2. World Health Organization. Motor Development in Early Childhood: A WHO Report.