متعة العطاء وأثرها

متعة العطاء

مقدمة: جوهر الإنسان المتصل بالعطاء

العطاء ليس مجرد فعل مادي ينتهي عند تقديم شيء للآخر، بل هو تعبير عميق عن التفاعل الإنساني، والتكافل، والحب غير المشروط. منذ نشأة المجتمعات البشرية، كان العطاء عنصراً مركزياً في نسيج العلاقات الاجتماعية، وتجلّت قيمته في صور متعددة كالتضحية، الكرم، الإيثار، والرحمة. ينعكس العطاء في كل أوجه الحياة، سواء كان مادياً أو معنوياً، ويكتسب أبعاده العميقة من التأثير الذي يتركه في النفس البشرية، سواء على المعطي أو المتلقي.

البعد النفسي للعطاء: السعادة المزروعة في اليد المعطية

تشير الدراسات النفسية إلى أن العطاء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسعادة الذاتية. ففي حين يُعتقد خطأً أن العطاء يقلل من رصيد المعطي، إلا أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً. الشعور بالرضا والارتياح الذي يعتري الإنسان بعد مساعدة الآخرين أو منحهم شيئاً من وقته، ماله، أو اهتمامه، لا يعادله شيء. وقد أظهرت أبحاث عديدة أن الدماغ يفرز هرمونات السعادة مثل الدوبامين والأوكسيتوسين بعد القيام بأعمال كرم أو إحسان، مما يخلق حالة من الارتقاء النفسي والعاطفي.

العطاء كقيمة أخلاقية وإنسانية

يُعتبر العطاء قيمة جوهرية في الفلسفات والأديان والتقاليد الإنسانية عبر العصور. ففي الإسلام، وردت آيات عديدة تحث على الصدقة، وتربطها بالبر والنجاة، مثل قوله تعالى: “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون”. وفي المسيحية، يُعتبر العطاء فعلاً من أفعال المحبة التي تُرضي الرب. أما في الفلسفة الشرقية مثل البوذية، فالعطاء يُعد وسيلة لتطهير النفس من التعلق والطمع. هذه القيم تتفق جميعها على أن العطاء ليس مفروضاً بالقوة، بل هو اختيار ينطلق من القلب ويُترجم إلى فعل إيجابي في حياة الآخرين.

أنواع العطاء: أشكال متعددة ومعانٍ واحدة

العطاء لا يقتصر على المال، بل يشمل طيفاً واسعاً من الأفعال الإنسانية، نذكر منها:

التطوع كأحد أبرز تجليات العطاء

التطوع يمثل نموذجاً ناصعاً للعطاء غير المشروط، إذ يهب الفرد جزءاً من وقته وجهده لخدمة الآخرين أو المجتمع دون مقابل مادي. ويُعد التطوع من أهم دعائم التنمية المستدامة، كما يسهم في بناء مجتمعات متماسكة ومترابطة. وقد أصبح اليوم أحد المؤشرات العالمية التي تُقاس بها حضارة المجتمعات وتقدمها. على مستوى الفرد، يعزز العمل التطوعي الشعور بالانتماء، ويكسب الفرد مهارات حياتية وشخصية ثمينة.

العطاء في الأسرة: تربية أجيال متوازنة

الأسرة هي النواة الأولى التي يتعلّم فيها الإنسان معنى العطاء، ويختبره واقعياً من خلال أدوار الأبوين، الإخوة، والأقارب. حين يرى الطفل والديه يعطون من وقتهم وحنانهم له، أو عندما يشارك في عمل جماعي داخل الأسرة، يتكوّن في داخله مفهوم العطاء كفعل طبيعي وإنساني. الأسر التي تشجع على العطاء تُنمي لدى أبنائها قيم الرحمة، الاحترام، والمشاركة، مما ينعكس في سلوكياتهم لاحقاً في المجتمع.

العطاء في التعليم: أدوار المعلم النبيلة

المعلم الذي يُعطي من علمه ووقته وحنانه يُجسد أعلى صور العطاء. فالتعليم لا يقتصر على نقل المعلومة، بل هو عملية إنسانية تتطلب صبراً، إيماناً، ورغبة في تنمية الآخرين. كل معلم يعطي من قلبه قبل عقله يزرع بذور المعرفة والقيم في نفوس طلابه، ويُحدث أثراً باقياً يتجاوز حدود الصفوف الدراسية. وهكذا يصبح العطاء في التعليم حجر الزاوية في نهضة المجتمعات وتطورها.

العمل المؤسسي والعطاء الاجتماعي

في السنوات الأخيرة، ظهر مفهوم “المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات”، وهو أحد أشكال العطاء المنظم الذي تقدمه الشركات والمؤسسات لدعم المجتمع. يشمل هذا العطاء برامج تنموية، بيئية، وصحية، تُسهم في تحسين جودة الحياة للمجتمعات. وقد أصبح هذا التوجه معياراً أخلاقياً وتنافسياً في عالم الأعمال، إذ يُنظر للشركة المعطية كشريك في التنمية وليس فقط كمصدر ربح.

تأثير العطاء على الصحة الجسدية والعقلية

الأبحاث العلمية تثبت أن الأشخاص الذين يمارسون العطاء يتمتعون بصحة جسدية وعقلية أفضل. ففي دراسة نشرتها مجلة “Psychosomatic Medicine”، وُجد أن العطاء يقلل من ضغط الدم، ويُعزز وظائف القلب، ويقلل من مستويات التوتر. كما أشارت دراسات أخرى إلى أن العطاء المنتظم يُقلل من الشعور بالوحدة والاكتئاب، ويزيد من الإحساس بالمعنى في الحياة، خاصة عند كبار السن.

العطاء في الثقافة والفن

الفنانون والمبدعون يعطون من أنفسهم للعالم عبر أعمالهم، فهم يجسّدون المشاعر والمعاني التي تحرك المجتمعات نحو الأفضل. وقد أسهم العطاء الثقافي والفني في تغيير مجتمعات بأكملها، وترك بصمات خالدة في وجدان الشعوب. سواء كان هذا العطاء عبر كتاب، لوحة، مسرحية، أو أغنية، فإنه يحمل رسالة إنسانية تتجاوز الزمان والمكان.

تربية الأبناء على العطاء: مسؤولية تربوية وأخلاقية

من المهم أن يتربى الأطفال على قيمة العطاء منذ الصغر، لأن هذه التربية تخلق جيلاً متعاطفاً، متفهماً، وواعياً بمسؤولياته تجاه الآخرين. يُمكن تحقيق ذلك عبر تشجيعهم على المساهمة في أنشطة خيرية، أو إشراكهم في مشاريع اجتماعية صغيرة، أو حتى من خلال الحكايات والأمثلة التي تُبرز مكافأة العطاء ونتائجه الطيبة.

عوائق العطاء في المجتمعات الحديثة

رغم الفوائد الهائلة للعطاء، إلا أن أنماط الحياة المعاصرة قد تعيق ممارسته. الانشغال المفرط، نمط الحياة الاستهلاكي، والانغلاق الاجتماعي، كلها عوامل تقلل من فرص العطاء، أو تجعل الإنسان يعتقد أنه لا يملك ما يمكن تقديمه. وهنا تبرز الحاجة لإعادة النظر في أولوياتنا اليومية، وترسيخ مفهوم أن العطاء لا يحتاج إلى مال كثير أو وقت طويل، بل إلى نية صادقة وفعل بسيط.

العطاء والقيادة المجتمعية

القادة الحقيقيون يُعرفون بقدرتهم على العطاء قبل القيادة. فهم يمنحون الثقة، الفرص، والمبادرة للآخرين، ويؤمنون بأن دورهم لا يقتصر على التوجيه بل يمتد إلى تمكين الآخرين. ويُعد العطاء أحد الأدوات الناعمة التي تُكسب القائد احتراماً حقيقياً، وتخلق ولاءً متبادلاً داخل أي منظمة أو مجتمع.

العطاء كقيمة اقتصادية

في بعض النماذج الاقتصادية الحديثة، يُنظر للعطاء كجزء من “رأس المال الاجتماعي”، حيث تُقاس قيمة الفرد أو المؤسسة بمساهماتهم في رفاه الآخرين. اقتصاد المشاركة مثلاً يُبنى على مبدأ تقاسم الموارد، والخدمات التعاونية، وهو يضع العطاء في صلب النموذج الاقتصادي المستقبلي، حيث لا يُعد الربح وحده المؤشر الوحيد للنجاح.

الخاتمة: العطاء طريق نحو السلام الداخلي والمجتمعي

العطاء لا يُنقص من رصيد المعطي، بل يثريه. هو طاقة خفية، تُحدث تفاعلاً مضاعفاً في داخل النفوس. حين يُصبح العطاء عادة مجتمعية، تنشأ مجتمعات أكثر ترابطاً، وسلاماً، وازدهاراً. وحين يُمارس العطاء بوعي وحب، يتحول من مجرد سلوك إلى فلسفة حياة تُمكّن الإنسان من اكتشاف ذاته، وتحقيق سعادته، وبناء جسور عميقة مع الآخرين.

المراجع:

1. Post, Stephen G. (2007). Why Good Things Happen to Good People. Broadway Books.

2. Layous, Kristin, et al. (2012). “Kindness counts: Prompting prosocial behavior in preadolescents boosts peer acceptance and well-being.” PLOS ONE.