ما هو الكتاب الأصح بعد كتاب الله تعالى (القران الكريم)؟

المقدمة

عندما نتحدث عن النصوص الإسلامية، يتبوأ القرآن الكريم مكانة فريدة لا تضاهى، فهو كتاب الله المعصوم المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون هدى للبشرية. يأتي بعد القرآن الكريم في الأهمية، ما يُعرف بأصح الكتب عند المسلمين من أهل السنة والجماعة، وهو كتاب “الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه”، المشهور بـ”صحيح البخاري”.

يعد “صحيح البخاري” أكثر الكتب تأثيراً في الفقه الإسلامي وفي حياة المسلمين اليومية، وهو كتاب يشمل كل مناحي الحياة الإسلامية من عقيدة، عبادات، معاملات، أخلاق، وغيرها من الجوانب. تم تحرير هذا الكتاب بدقة متناهية على يد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، الذي انتخب أحاديثه من بين مئات الآلاف من الأحاديث النبوية التي جمعها.

الإمام البخاري وحياته العلمية

محمد بن إسماعيل البخاري هو أحد أبرز علماء الحديث في التاريخ الإسلامي. وُلد في بخارى، والتي تقع الآن في أوزبكستان، في الثالث عشر من شوال سنة 194 هـ الموافق 20 يوليو 810 م. نشأ في بيئة علمية، حيث كان والده من العلماء المحدثين، ولكن توفي والده وهو صغير، فربته أمه على حب العلم والحديث.

منذ صغره، أظهر الإمام البخاري نبوغاً في العلم، فحفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره، ثم بدأ في حفظ الأحاديث النبوية. دخل الكتاتيب ليتعلم أمهات الكتب المتداولة في زمانه، وبعد ذلك بدأ في رحلته العلمية التي استغرقت سنوات طويلة، زار خلالها مختلف الأقاليم الإسلامية مثل الحجاز، مصر، العراق، والشام ليتلقى الحديث من العلماء والمحدثين.

في سن السادسة عشرة، كان الإمام البخاري قد جمع ودرس كثيرًا من كتب الحديث، مثل كتب عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح. استمر في رحلته العلمية حتى أصبح واحدًا من أعظم حفاظ الحديث، وجمع نحو ستمائة ألف حديث، كان منها ما صنفه في كتابه الشهير “صحيح البخاري”.

سبب تصنيف “صحيح البخاري”

تقول الروايات أن السبب المباشر الذي دفع الإمام البخاري لتأليف كتابه كان ملاحظة معلمه إسحاق بن راهويه لحاجة الأمة إلى كتاب مختصر يجمع الأحاديث الصحيحة فقط. كما روى الإمام البخاري أنه رأى في المنام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان واقفًا أمامه، وبيده مروحة يذب بها عنه الكذب. وعندما سأل أحد المعبرين عن هذه الرؤية، قال له إنك ستذُب الكذب عن النبي، وهذا ما جعله يبدأ في تأليف هذا الكتاب.

منهج البخاري في تصنيف “صحيح البخاري”

بدأ الإمام البخاري في تصنيف كتابه في المسجد الحرام، وكان كلما كتب باباً أو بابين، صلى ركعتين استخارةً لله. كان الهدف الأساسي من تصنيف هذا الكتاب هو جمع الأحاديث الصحيحة فقط، فكان دقيقاً في اختيار الأحاديث، حيث كان يتحرى الدقة في السند والمتن معاً.

اعتمد البخاري في كتابه على الأحاديث التي وردت عن الثقات المتقنين من الرواة، الذين لازموا شيوخهم ملازمة طويلة سفراً وحضراً. وحرص على استشارة كبار العلماء والمحدثين في عصره، فعرض الكتاب على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، الذين استحسنوا ما فيه وشهدوا له بالصحة.

المنهج النقدي للبخاري

كان الإمام البخاري ناقدًا بارعًا، ولم يكن يكتفي برواية الحديث، بل كان يعلّق عليه في تراجم الأبواب. كانت تراجم الأبواب في “صحيح البخاري” تحتوي على فقه مستنبط من الحديث، حتى اشتهر القول “فقه البخاري في تراجمه”. ولم يكن البخاري يكرر الحديث في كتابه إلا لفائدة إسنادية أو متنية.

لم يصرح البخاري بشرط قبول الحديث في صحيحه، لكن العلماء استنبطوا من كتابه أن شرطه كان يتطلب اتصال الإسناد، وأن يكون الراوي ثقة متقنًا، مشهودًا له من قبل أقرانه. وكان يتحرى في ذلك أشد التحري، بحيث يكون الراوي ملازماً لمن روى عنه.

عدد أحاديث “صحيح البخاري”

يختلف العلماء في تقدير عدد أحاديث “صحيح البخاري”، إذ ذكر بعضهم أنه يحتوي على 7275 حديثًا بالمكرر، بينما يرى آخرون أن العدد بدون المكرر يصل إلى نحو 2602 حديث. ومن المهم الإشارة إلى أن البخاري كان يتجنب التطويل والتكرار في بعض المواضع، فيذكر الأحاديث المعلقة، وهي الأحاديث التي حذف من بدايتها راوٍ أو أكثر، ولكنه كان يوردها في موضع آخر بإسناد كامل.

مكانة “صحيح البخاري” عند العلماء

يحتل “صحيح البخاري” مكانة عظيمة عند المسلمين، ويعتبره العلماء أصح الكتب بعد القرآن الكريم. وتقول الروايات إن نحو سبعين ألفًا سمعوا الكتاب من الإمام البخاري مباشرة، وانتقلت روايته بالتواتر عبر الأجيال حتى وصلتنا النسخة التي بين أيدينا.

كان “صحيح البخاري” المرجع الأول لكثير من علماء الحديث، الذين ألفوا شروحاً وحواشي وتعليقات عليه. أشهر هذه الشروح هو “فتح الباري بشرح صحيح البخاري” لابن حجر العسقلاني، الذي يُعد من أوسع وأشمل الشروح. ومن العلماء الآخرين الذين شرحوا الكتاب: ابن بطال، العيني، والقسطلاني.

الشروح والمختصرات والمستدركات على “صحيح البخاري”

لم يقتصر الاهتمام بـ”صحيح البخاري” على مجرد حفظه وتدريسه، بل تعدى ذلك إلى كتابة شروح مفصلة له. ولعل أشهر الشروح هو “فتح الباري” لابن حجر العسقلاني، الذي يُعتبر أعظم شرح لكتاب البخاري على مر العصور. تناول ابن حجر في هذا الشرح كل الجوانب المتعلقة بالأحاديث، سواء من حيث صحة الإسناد أو الفقه المستنبط منها.

إلى جانب الشروح، قام بعض العلماء باختصار “صحيح البخاري” لحذف الأسانيد والمكررات وتقديم المتن مباشرة للقارئ. من أشهر هذه المختصرات: “التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح” للإمام الزبيدي، و”مختصر صحيح البخاري” للشيخ الألباني.

أما فيما يخص المستدركات، فقد ألف بعض العلماء كتبًا تجمع الأحاديث التي كانت على شرط البخاري ولم يذكرها في كتابه. أشهر هذه المستدركات هو “المستدرك على الصحيحين” للحاكم النيسابوري.

منهج البخاري في تكرار الأحاديث

كان للإمام البخاري أسلوب مميز في تكرار الأحاديث داخل كتابه. لم يكن التكرار لمجرد التكرار، بل كان البخاري يكرر الحديث لفائدة استنباطية أو إسنادية. كان أحيانًا يذكر الحديث بشكل كامل في موضع واحد، ويقتصر في مواضع أخرى على جزء منه يتناسب مع موضوع الباب. بالإضافة إلى ذلك، كان البخاري يشير في كل مرة إلى فائدة جديدة تستنبط من الحديث.

مكانة “صحيح البخاري” في العلوم الإسلامية

يحتل “صحيح البخاري” مكانة خاصة في التراث الإسلامي. إلى جانب كونه مصدرًا رئيسيًا للأحاديث النبوية، فإنه يعتبر مرجعًا فقهيًا هامًا. تناول الكتاب مختلف جوانب الحياة الإسلامية، وقدم للأمة الإسلامية مرجعًا لا غنى عنه في التشريع والتوجيه الديني.

تعددت الفوائد التي استنبطها العلماء من كتاب البخاري، مما جعله مصدرًا مهمًا للدراسات الفقهية والعلمية. كما أن التزام البخاري بالدقة والتحري في اختيار الأحاديث جعله قدوة يحتذى بها في منهجية البحث العلمي الإسلامي.

الإمام البخاري: أمير المؤمنين في الحديث

يُلقب الإمام البخاري بـ”أمير المؤمنين في الحديث”، وهذا اللقب لم يُمنح إلا للقلة من العلماء الذين بلغوا غاية الحفظ والإتقان في رواية الحديث. كان البخاري قدوة لغيره من المحدثين، واستفاد منه الكثيرون، من بينهم الإمام مسلم صاحب “صحيح مسلم”.

كان للإمام البخاري دور كبير في تطوير علوم الحديث، خاصة في الجرح والتعديل، حيث وضع أسسًا صارمة لقبول الرواية. وقد أثر هذا المنهج في الأجيال اللاحقة من المحدثين الذين تابعوا نهجه وحافظوا على تراث السنة النبوية.

مكانة “صحيح البخاري” في العالم الإسلامي

منذ أن نشر الإمام البخاري كتابه “الجامع الصحيح”، وانتشرت شهرته في جميع أرجاء العالم الإسلامي. استمر العلماء في تدريسه وشرحه على مر العصور، وما زال “صحيح البخاري” يُعتبر المرجع الأول بعد القرآن الكريم.

في كل مدرسة علمية، كان “صحيح البخاري” جزءًا أساسيًا من المنهج الدراسي، حيث تعلم الطلاب كيفية التعامل مع النصوص الدينية وفهمها بعمق. وحتى في العصر الحديث، ما زال “صحيح البخاري” يحتفظ بمكانته كمرجع أصيل لا يمكن الاستغناء عنه في دراسة الحديث.

أهم المآخذ على “صحيح البخاري”

رغم أن “صحيح البخاري” يُعد أصح الكتب بعد القرآن الكريم، إلا أن بعض العلماء انتقدوا بعض الأحاديث التي وردت فيه. فمثلاً، أشار الإمام النووي إلى أن بعض العلماء استدركوا على البخاري ومسلم أحاديث رأوا أنها أخطأت في شرطهما.

ولكن ينبغي الإشارة إلى أن هذه الانتقادات لم تؤثر على مكانة “صحيح البخاري” بين العلماء، حيث اتفق الجميع على أنه أصح الكتب بعد القرآن الكريم. وأشار العلماء مثل ابن حجر العسقلاني إلى أن هذه الأحاديث المنتقدة لا تشكل جزءًا كبيرًا من الكتاب ولا تمس جوهره.

التراجم والعناية بـ”صحيح البخاري”

ترجم “صحيح البخاري” إلى عدة لغات، مما ساعد في نشره بين المسلمين غير الناطقين بالعربية. وقد حرص العلماء على ترجمة الكتاب بدقة وعناية لتصل رسالته كما هي.

لم يقتصر الاهتمام بـ”صحيح البخاري” على ترجمته فقط، بل أيضاً على المخطوطات القديمة، حيث حفظ العلماء نسخًا من الكتاب وحرصوا على مراجعتها وتدقيقها. أشهر هذه النسخ هي النسخة اليونينية التي اعتمد عليها العلماء في تحقيق النصوص.

خاتمة

يظل “صحيح البخاري” من أعظم وأهم الكتب في التراث الإسلامي، فهو مرجع لا غنى عنه لكل من يريد فهم السنة النبوية ومعرفة الأحكام الشرعية. الإمام البخاري بجهده العظيم أسدى خدمة جليلة للأمة الإسلامية، حيث جمع لنا هذا الكتاب الذي يُعد ثاني أصح كتاب بعد القرآن الكريم.

يبقى “صحيح البخاري” إلى يومنا هذا منبعًا للعلم والفقه، وما زال العلماء والباحثون يتناولونه بالدراسة والتحليل، مما يدل على قيمته العلمية والدينية العالية. وعلى مر الأجيال، سيظل “صحيح البخاري” شاهدًا على عظمة التراث الإسلامي ودقة العلماء المسلمين في حفظ السنة النبوية.

ملخص

كتاب الأمام البخاري، «الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه»، الشهير بِٱسم «صحيح البخاري» هو أبرز كتب الحديث النبوي عند المسلمين من أهل السنة والجماعة. صنّفه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري واستغرق في تحريره ستة عشر عاماً، وانتقى أحاديثه من ستمائة ألف حديث جمعها، ويحتلّ الكتاب مكانة متقدمة عند أهل السنّة حيث إنه أحد الكتب الستّة التي تعتبر من أمهات مصادر الحديث عندهم، وهو أوّل كتاب مصنّف في الحديث الصحيح المجرّد، كما يعتبر لديهم أصحّ كتاب بعد القرآن الكريم. ويعتبر كتاب صحيح البخاري أحد كتب الجوامع وهي التي احتوت على جميع أبواب الحديث من العقائد والأحكام والتفسير والتاريخ والزهد والآداب وغيرها.