مؤسس بحور الشعر العربي

من وضع بحور الشعر؟

الحديث عن بحور الشعر يعدّ من المواضيع التي تثير الكثير من الفضول والتأمل لدى محبي الشعر العربي وعلمائه. فالشعر العربي، بأشكاله وألوانه المختلفة، يعتمد على مجموعة من الأسس والأنماط التي تحدد إيقاعه، وطريقة تسلسله، وتنظيمه. من هذه الأسس المهمة في الشعر العربي “الوزن”، الذي هو الأساس الذي تبنى عليه جميع أنواع الشعر العربي. ويعدّ بحر الشعر من أهم هذه العناصر، فهو الذي يحدد بنية القصيدة ويعطيها شكلًا موسيقيًا معينًا. ولعلّ أكثر الأسئلة تداولًا بين الدارسين والمهتمين بهذا الفن العريق هو: من هو صاحب الفضل في وضع بحور الشعر؟ هل كان الأمر محضّ صدفة أم كان ثمرة دراسة وتحليل متعمق؟

1. الوزن في الشعر العربي

قبل الحديث عن منشأ بحور الشعر، من الضروري فهم مفهوم الوزن. في الشعر العربي، يُقصد بالوزن تكرار التشكيلات الصوتية المنتظمة والمحددة التي تنبثق منها موسيقى القصيدة. وتستند هذه التشكيلات على تسلسل التفاعيل (أو المقاطع) الصوتية التي تكرر بشكل معين في كل بيت شعري. فالشعر العربي لا يقتصر على كلمات ذات معانٍ بليغة فقط، بل أيضًا على أوزان موسيقية تسهم في تكوين جمالية العمل الأدبي.

2. بحور الشعر العربي

تُعدّ بحور الشعر العربي بمثابة الأطر التي يُبنى داخلها الشعر العربي الكلاسيكي، ويختلف كل بحر عن الآخر في تقاسيمه الموسيقية. هذه البحور هي عبارة عن تفاعيل معينة تتكرر بشكل منتظم، ويمكن تقسيمها إلى عدة أنواع رئيسية. أشهر بحور الشعر العربي هي:

• بحر الطويل: الذي يتميز بتكرار التفعيل “فعولن” في كل شطر من أبيات القصيدة.

• بحر الكامل: يتسم بتكرار التفعيل “مفاعيلن”، وهو أحد البحور المشهورة في شعر المدح والغزل.

• بحر الهزج: يعتمد على التفعيل “مفاعلتن”، ويتميز بإيقاعه السريع.

• بحر الرمل: يأتي في التفعيل “فاعلاتن”، ويستخدم في العديد من أنواع الشعر الصوفي والتصوف.

• بحر السريع: يتميز بتكرار التفعيل “مفاعلتن”، وهو من البحور السهلة المليئة بالإيقاع الحيوي.

وغيرها من البحور التي يمكن تصنيفها بناءً على تفعيلات أخرى.

3. من هو واضع بحور الشعر؟

يعود الفضل في تقسيم الشعر العربي إلى بحور محددة إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، العالم اللغوي الشهير، الذي عاش في القرن الثاني الهجري (القرن الثامن الميلادي). كان الخليل بن أحمد عالمًا موسوعيًا في العديد من المجالات مثل النحو والصرف والعروض. ولكن أكثر ما ذُكر عنه في كتب التاريخ هو دوره البارز في وضع علم العروض.

كان الشعر العربي قبل الخليل غير منظم بشكل دقيق من ناحية الأوزان، إلا أن الفراهيدي كان أول من قام بتقسيم الأوزان إلى بحور، بحيث يسهل على الشعراء الارتكاز عليها في نظم قصائدهم. وقد بدأ الخليل بن أحمد هذا المشروع الضخم عن طريق دراسة وتحليل قصائد الشعراء الجاهليين والإسلاميين، واستخراج الأوزان المتكررة فيها.

وبذلك، كان الخليل بن أحمد رائدًا في ابتكار هذا العلم وتطويره، ووضع الأسس التي قام عليها علم العروض حتى يومنا هذا. ولعل عمله في تصنيف بحور الشعر يعدّ من أكبر الإنجازات العلمية التي أثرت في الأدب العربي بشكل غير مسبوق.

4. طريقة الخليل في تصنيف البحور

من أجل تصنيف البحور، اعتمد الخليل بن أحمد على التفاعيل، وهي التشكيلات الصوتية التي تتكرر في كل بيت شعري. في نظره، كان كل بحر يعبر عن إيقاع موسيقي معين يتناسب مع نوعية الموضوعات التي يعالجها. على سبيل المثال، كان الخليل يلاحظ أن بحر “الكامل” يتناسب أكثر مع الأغراض المديحية أو الشعر الغزلي، في حين كان “الطويل” يعبّر عن نوع من الأوزان المهيبة التي تناسب الأغراض الملحمية والتاريخية.

قسم الخليل الشعر إلى ستة عشر بحرًا، ثم قام بتحديد التفاعيل التي تحتوي عليها كل بحر. كما أضاف قوانين خاصة لضبط هذه البحور، مثل تحديد عدد التفعيلات في كل شطر شعري (أي عدد التفاعيل في البيت)، وتوزيع هذه التفعيلات بين الأبيات على أساس النظام الصوتي.

5. الموسوعة العروضية للخليل

لا يمكن تجاهل أن عمل الخليل بن أحمد في مجال العروض كان متكاملًا، إذ أنجز كتابًا يعدّ مرجعًا مهمًا في هذا المجال، وهو كتاب “العروض”، الذي شرح فيه كيفية توظيف البحور في الشعر العربي. هذا الكتاب كان بمثابة موسوعة للعروض، حيث جمع فيه كل ما يحتاجه الشاعر لفهم وتطبيق قوانين الوزن في شعره.

أما طريقة الخليل في وضع البحور فكانت مبتكرة للغاية، حيث لم يكن يُقتصر فيها على مجرد جمع التفعيلات، بل عمد إلى تفسير كيف أن هذه التفعيلات تُناسب موضوعات الشعر المختلفة. وبهذا الشكل، يمكن القول إن الخليل بن أحمد لم يكن فقط واضعًا لبحور الشعر بل كان أيضًا مؤسسًا لعلم جديد سيتبعه الشعراء عبر العصور.

6. إسهامات الخليل في الشعر العربي

من خلال عمله في العروض، قام الخليل بن أحمد بتطوير علم الشعر بشكل عام، مما جعله يؤثر في جميع الأجيال التالية من الشعراء. فقد ترك لنا قواعد صارمة تنظّم القصيدة العربية بحيث يبقى الشعر محافظًا على رونقه الإيقاعي ويسهل على الشعراء كتابة قصائد تتسم بالإبداع والجمال. وبفضل الخليل، أصبح الشاعر العربي قادرًا على اختيار البحر المناسب للقصيدة التي يود نظمها، وكذلك تحديد الإيقاع الذي يتناسب مع مضمون القصيدة.

7. العروض بعد الخليل بن أحمد

على الرغم من أن الخليل بن أحمد هو مؤسس علم العروض وصاحب الفضل في تصنيف بحور الشعر، إلا أن العلم تطور بشكل مستمر بعده. فقد جاء سيبويه الذي قام بتطوير النحو والصرف، كما استمر الشاعر العربي في الإبداع في مختلف بحور الشعر. ولكن، كانت قوانين الخليل هي التي بقيت مرجعًا رئيسيًا لجميع الأجيال الشعرية.

8. الخليل بن أحمد في الشعر الحديث

بينما اعتمد الشعر التقليدي على بحور الخليل بشكل صارم، شهد الشعر العربي الحديث نوعًا من التغيير في التعامل مع هذه البحور. فقد بدأ بعض الشعراء في عصر النهضة بتجريب شكل جديد من الشعر، بعيد عن القيود التقليدية. ومع ظهور الشعر الحر، بدأ الشعراء في التحرر من الالتزام الصارم بالبحور. ولكن هذا لم يقلل من أهمية علم العروض ووزن البحور في الشعر العربي، بل إنَّ العديد من الشعراء الحديثين لا يزالون يستفيدون من بحور الخليل في أعمالهم.

9. خلاصة

إنّ إسهام الخليل بن أحمد الفراهيدي في علم العروض ووضع بحور الشعر كان حجر الزاوية في تطور الشعر العربي وتأسيسه على أسس موسيقية ثابتة. قد لا يكون لدينا في عصرنا هذا استخدام دائم للبحور كما كان في العصور السابقة، إلا أن تأثيره ما زال حاضرًا في قلب الأدب العربي. وهذا العمل الجليل يستحق أن يُذكر دائمًا باعتباره أساسًا لكل ما تلاه من تطور في الشعر العربي القديم والحديث.