لماذا نرسم الخرائط والشمال نحو الأعلى؟
لطالما كانت الخرائط أداة أساسية للبشرية منذ العصور القديمة، حيث ساعدت في التنقل والتخطيط وفهم الجغرافيا. واحدة من أكثر السمات المميزة للخرائط الحديثة هي أن الشمال يظهر في أعلى الخريطة. قد يبدو هذا أمرًا طبيعيًا بالنسبة للكثيرين، ولكن السؤال الأهم الذي يطرحه العديد من الناس هو: لماذا يتم رسم الخرائط والشمال نحو الأعلى؟ وما هي الأسباب الثقافية، التاريخية، والعلمية التي جعلت هذا التوجه سائدًا؟
الجذور التاريخية لرسم الخرائط
تعود بداية رسم الخرائط إلى العصور القديمة، حيث بدأ الإنسان في تدوين المعلومات الجغرافية للتنقل وحماية أراضيه. في هذه الفترة، لم يكن هناك تصور موحد حول كيفية تمثيل العالم على الخريطة. ففي حضارات مثل المصريين القدماء أو البابليين، كانت الخرائط تُرسم وفقًا للاتجاهات المحورية بالنسبة لهم.
في العصور الوسطى، كانت الخرائط تُظهر الشرق في الجزء العلوي منها، وهي عادة تعود إلى التقاليد المسيحية التي كانت تفضل وضع القدس في موقع “القاعدة”، أي في الجزء العلوي من الخريطة. فقد كان الشرق يُعتبر مركزًا للعالم بناءً على الدين والفكر الثقافي في تلك الحقبة.
الانتقال إلى الشمال نحو الأعلى
إذا كان الشمال في البداية ليس هو المكان الذي يظهر أعلى الخريطة، فمتى ولماذا تغير هذا؟ يعود هذا التغيير إلى الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، وهي الحقبة التي شهدت التوسع الكبير في اكتشافات العالم. إذ بدأت القوى الاستعمارية الأوروبية مثل البرتغال وإسبانيا في التنقل عبر المحيطات، وكان من الضروري وضع خرائط دقيقة لمساعدة البحارة على الإبحار لمسافات طويلة.
في هذه الفترة، أصبح هناك توافق تدريجي على أن الشمال يجب أن يكون في الأعلى، وذلك بسبب عدة عوامل:
-
التوجهات الفلكية والتجريبية: في العصور الوسطى، كانت البوصلة تُستخدم بشكل واسع في التنقل. البوصلة أظهرت دائمًا الشمال كاتجاه ثابت ومحدد. ومع تقدم علم الفلك، بدأ العلماء في اكتشاف النظام الشمسي واستخدامه في فهم حركة الأرض والاتجاهات الجغرافية. هذا جعل الشمال أكثر ارتباطًا بالأعلى في الخرائط، حيث تم الاعتراف به كاتجاه ثابت ودائم.
-
الهيمنة السياسية والثقافية: خلال فترة الاستكشافات، كانت أوروبا تتصدر العالم في مجالات العلم والتكنولوجيا. كانت القوى الأوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا، قد أنشأت إمبراطوريات ضخمة وسعت إلى تمثيل هيمنتها على العالم. وبالتالي، أصبحت خرائطهم هي الأكثر تأثيرًا وتم تبني النمط الأوروبي في رسم الخرائط، حيث يظهر الشمال في الأعلى.
-
التطور العلمي في الجغرافيا: في العصور الحديثة، أصبح من الضروري أن تكون الخرائط معيارية وقابلة للاستخدام عالميًا. كان من الطبيعي أن يتم اعتماد الشمال كاتجاه أعلى نظرًا لأنه أصبح الرمز الأكثر قبولًا وشيوعًا في معظم العالم، حيث كان يشير إلى الثبات والاتجاه الصحيح في ظل القيم العلمية الحديثة.
التحولات الثقافية
لا يمكن إغفال أن النمط الذي يعتمد على رسم الشمال في أعلى الخرائط أصبح جزءًا من الثقافة الغربية الحديثة، وتم تعميمه في مختلف أنحاء العالم. وحتى في الثقافات الأخرى التي لم تعتمد بالأساس على نفس التوجهات الجغرافية، تبنت هذا النمط نتيجة للتأثير الغربي الذي انتشر في العصور الحديثة من خلال الاستعمار والتعليم والتجارة.
ومع مرور الوقت، أصبح رسم الشمال في أعلى الخريطة جزءًا من التقاليد العلمية والتقنية التي لا يتم التشكيك فيها تقريبًا. وقد أصبحت هذه العادة جزءًا من النظام التعليمي في المدارس حول العالم، مما عزز من قبولها العالمي.
لماذا لا توجد بدائل؟
بالرغم من أن العديد من الحضارات القديمة كانت تستخدم مراجع جغرافية مختلفة – مثل الشرق أو الجنوب كاتجاهات أساسية – إلا أن الشمال حافظ على مكانته في أعلى الخرائط لعدة أسباب:
-
البوصلة وحركة الأرض: يُعتبر الشمال وجهة ثابتة ومحددة بفضل استخدام البوصلة. هذا جعل من السهل رسم الخرائط بناءً على اتجاهات ثابتة يمكن أن تساعد في التنقل.
-
التأثير الأوروبي على الخرائط: كما ذُكر سابقًا، كان للاحتلال الأوروبي والعولمة تأثير كبير في نشر هذا النمط في الخرائط، حيث فرضت القوة العسكرية والاقتصادية الأوروبية توجهاتها في كثير من المجالات.
-
البحث العلمي وضرورة الاتفاق العالمي: اليوم، وفي عالم يتسم بالترابط العالمي، من الضروري أن تكون الخرائط قابلة للفهم بسهولة من قبل الجميع. وقد أصبح وضع الشمال في أعلى الخريطة أمرًا موحدًا وعالميًا، ما يسهل التنقل والتعليم والتجارة بين الشعوب المختلفة.
تأثيرات هذه العادة على الفكر المعاصر
قد يبدو من الغريب أن نربط عادة رسم الشمال نحو الأعلى بتأثيرات ثقافية وفكرية، ولكن هذا النمط له تأثير عميق في فهمنا للعالم. يشير هذا التوجه إلى أننا نعيش في عالم تم تحديده وتشكيله من خلال نظرة واحدة إلى العالم – النظرة الغربية.
على الرغم من أن هناك بعض المحاولات الحديثة لاستخدام خرائط تُظهر اتجاهات مختلفة (مثل الخرائط التي توضع فيها الجنوب في الأعلى)، فإن هذه الخرائط لم تحظَ بالانتشار الواسع كما هو الحال مع الخرائط التقليدية. وهذا يدل على أن الخريطة التي نستخدمها اليوم هي أكثر من مجرد تمثيل جغرافي؛ هي انعكاس للتاريخ الثقافي والسياسي الذي أثر على طريقة فهمنا للعالم.
الخلاصة
إن رسم الشمال في أعلى الخرائط هو تقليد طويل الأمد نشأ من تداخل عوامل جغرافية، فلكية، ثقافية، وتاريخية. وقد تأثر هذا التوجه بالعديد من العوامل التي جعلت من الشمال العنصر المهيمن في الخرائط الحديثة، بما في ذلك استخدام البوصلة، التوسع الأوروبي في العصور الوسطى والحديثة، والأبحاث العلمية التي دعمت فكرة الثبات والاستقرار في اتجاهات معينة. اليوم، قد يبدو الأمر طبيعيًا بالنسبة لنا، ولكنه يعكس التأثير الكبير الذي مارسته القوى الغربية على النظرة العالمية.