لحن الصلح: أم كلثوم وزكريا أحمد في تحفة فنية لا تنسى

في سنوات الستينيات، أبدع شيخ الملحنين زكريا أحمد قطعة فنية استثنائية تحمل عنوان “هو صحيح الهوى غلاب”، وكانت هذه الأغنية الجميلة هي اللقاء الفني الذي أنار سماء كوكب الشرق، أم كلثوم. تلك اللحظة الفارقة أتت بعد خلاف استمر لأكثر من عقد، حيث شعر زكريا بأنه لم يحقق ما يستحقه من الإعتراف بمساهمته الفنية الكبيرة في رسم ملامح الفن المصري.

الخلاف بين زكريا أحمد وأم كلثوم بلغ ذروته حتى وصل إلى قاعات المحكمة، حيث تداولوا الاتهامات والمطالبات بالحقوق. وفيما كانت الكلمات تتلاحق في أروقة القضاء، خرج قاضٍ بارع يحمل شغفاً بالفن ورؤية تفهم قيمته، حيث أقر بأن مكان زكريا وأم كلثوم هو ساحة الغناء، لا ساحة القضاء، وأن الجمهور يتوق لسماع لحن جديد يجمع بين هذين العملاقين.

وكان الحكم النهائي يقضي بأن يلحن زكريا أحمد أغنية جديدة لأم كلثوم، وأن يكون أجره 750 جنيهاً، في تسوية فنية فريدة من نوعها. وقد جاء هذا القرار بعد مرافعة استثنائية أداها القاضي، حيث ألقى الضوء على مساهمة النجمين في تاريخ الموسيقى العربية.

تألق زكريا أحمد من جديد بتلحينه لمقدمة الأغنية على مقام الراست، وثمن استخدامه مقام الصبا، المعروف بكونه مقام الحزن والشجن، ليضفي على اللحن بعداً عاطفياً استثنائياً. وبهذا اللحن الجديد، غنت أم كلثوم “هو صحيح” لأول مرة على مسرح قصر النيل في ديسمبر 1960.

لكن، كانت هذه اللحظة الفنية مرتبطة بفجيعة، حيث رحل شاعر الأغاني بيرم التونسي قبيل صدور الأغنية بفترة قصيرة. وفي مثل تلك الظروف الصعبة، كانت الأغنية تحمل بين نغماتها حزن وفراق، معبرة عن تأثير فنانين عظماء على بعضهما البعض وعلى الفن العربي بشكل عام.

وبذلك، أصبحت “هو صحيح الهوى غلاب” لحناً لا يُنسى، حيث لا تزال تردد في سماء الفن العربي، محملة بالعاطفة والإبداع الذي جسدته هذه التحفة الفنية. ومع كل نغمة، يعود السائل إلى سؤاله: “هل الهوى غلاب؟”، ورغم مرور الزمن، يظل الجواب غامضاً، مثلما كانت تردد أم كلثوم ببساطة: “ما عرفش أنا”.

تلك الفترة الفنية الرائعة شهدت لحظات استثنائية في عالم الغناء المصري، حيث جمعت أم كلثوم وزكريا أحمد تحت سقف واحد من جديد. كانت “هو صحيح الهوى غلاب” ليست مجرد أغنية، بل كانت تجربة فنية استثنائية، حيث اندمجت فيها مواهب عظيمة لإنتاج تحفة فنية لا تنسى.

قدمت أم كلثوم هذه الأغنية بأداء مذهل، حيث نجحت في إيصال عمق الكلمات ورونق اللحن بطريقة تمزج بين العاطفة والإلهام. وكانت هذه التحفة الفنية الناتجة عن تعاونها مع زكريا أحمد تجسيدًا حيًا للفن العربي الأصيل الذي يتغنى بالحب والحياة.

كانت الأغنية لحظة فارقة في مسيرة زكريا أحمد أيضًا، إذ عادت له فرصة إثبات إبداعه بعد فترة من الخلاف والتوتر. قدّم لحنًا ينبض بالحياة والعاطفة، حيث اندمجت مقاماته ببراعة وتألق، مما جعلها لحنًا استثنائيًا في تاريخ الموسيقى العربية.

يعكس اللحن المشهد الفني والاجتماعي في تلك الفترة، حيث كان الجمهور ينجذب إلى فنانين كبار مثل أم كلثوم وزكريا أحمد، ويتوقعون منهما إبداعات تليق بتاريخهما الفني الرائع. كما أن قصة التصالح والصلح التي حدثت بينهما أضفت بعدًا إنسانيًا لهذه اللحظة الفنية، حيث اجتمعوا من جديد تحت لواء الفن والمحبة.

وفي نهاية المطاف، أصبحت “هو صحيح الهوى غلاب” ليس فقط أغنية فنية، ولكنها أيضًا رمز للتسامح والصلح، حيث تجاوز الفن الخلافات والتحديات ليبني جسوراً من الموسيقى تربط بين الناس وتترك أثرًا عميقًا في قلوبهم.