أصل عبارة ‘أما بعد’ في الخطاب العربي

أول من قال أما بعد

يعد التعبير “أما بعد” من أبرز العبارات التي تُستخدم في الخطابات والمراسلات الرسمية والدينية والكتابات الأدبية في العالم العربي، وهي من العبارات التي تحمل طابعاً تقليدياً مميزاً في الأدب العربي والإسلامي على وجه الخصوص. وقد اشتهرت هذه العبارة بوجودها في العديد من الخطب والمراسلات القديمة، وقد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الثقافة العربية والإسلامية. كان لها دور كبير في التنظيم الفني للخطاب والرسالة، وتعتبر عنصرًا من عناصر التقديم الذي يسبق تقديم الموضوع الرئيس.

نشأة عبارة “أما بعد”

تعود بداية استخدام هذه العبارة إلى عصر ما قبل الإسلام، حيث كانت تستخدم بشكل غير رسمي في الخطابات بين الحكام والقادة والشعراء في الأدب العربي الجاهلي. لكن استخدام العبارة بشكل تقليدي في الخطابات الرسمية لم يتخذ طابعه المهيمن إلا بعد ظهور الإسلام وانتشار الفصاحة والبلاغة في كلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

ومع تطور الحياة الاجتماعية والسياسية في المجتمع الإسلامي، بدأ استخدام عبارة “أما بعد” بشكل أساسي في الخطب والمراسلات السياسية والدينية، ولا سيما في الرسائل التي كانت تُكتب إلى الحكام والولاة أو في الخطابات التي يلقيها العلماء والشخصيات المؤثرة في المجتمع. على الرغم من أنها قد تبدو جملة قصيرة وبسيطة، إلا أن استخدامها كان يحمل في طياته الكثير من المعاني والرمزية التي ترتبط بالجدية والاحترام، وخصوصًا في الكتابات الرسمية والدينية.

الفارق بين “أما بعد” و”بسم الله الرحمن الرحيم”

عادةً ما يتم استخدام “أما بعد” بعد بداية الخطاب أو الرسالة التي تبدأ غالبًا بعبارة “بسم الله الرحمن الرحيم”، حيث تعتبر “بسم الله” بداية مقدسة تُفتتح بها جميع الأعمال والكتابات المهمة في الإسلام. في حين أن “أما بعد” تستخدم بعد هذه المقدمة لتقديم الموضوع الأساسي أو الموضوعات التي سيتناولها الكاتب أو المتحدث. ولذلك، يمكننا القول إن “أما بعد” هي بمثابة النقلة إلى الموضوع الفعلي الذي يتبعه، وتساعد على رسم الانتقال من التحية أو المقدمة إلى قلب الخطاب أو الرسالة.

أول من قال “أما بعد”

كان من أشهر الشخصيات التي استخدمت “أما بعد” في خطبها ورسائلها هو الخليفة الأموي الشهير، عبد الملك بن مروان. على الرغم من أن استخدام هذه العبارة كان شائعًا في الكتابات العربية، إلا أن عبد الملك بن مروان أصبح من أشهر القادة الذين استخدموها بشكل رسمي ومتسق في رسائله إلى العديد من الولاة والأمراء.

يقال أن عبد الملك بن مروان كان يولي أهمية كبيرة لاستخدام أسلوب مميز في خطبه ورسائله، ولذلك كان يفضل استخدام “أما بعد” كعبارة تُستخدم كتمهيد للمناقشات الرسمية في رسائله إلى القادة والولاة في الدولة الأموية. وبالتالي يمكننا اعتبار عبد الملك بن مروان أول من أدرج “أما بعد” بشكل واسع في الرسائل الرسمية والأدبية الإسلامية، ما جعلها من العبارات المميزة التي نُسبت إلى هذا العصر التاريخي.

تطور استخدام “أما بعد”

منذ أن بدأ استخدام “أما بعد” في الكتابات الرسمية والإدارية، أصبحت هذه العبارة ركيزة من ركائز الأدب العربي والإسلامي. وقد انتقلت مع مرور الوقت لتصبح جزءًا من الأسلوب الكتابي في العديد من المجالات مثل السياسة والفقه والعلم والدعوة. قد تكون هذه العبارة قد أُدخلت لتساهم في تسلسل الكلام وترتيب الأفكار، وهو ما يتيح للمستمع أو القارئ فرصة تهيئة نفسه للموضوعات القادمة.

إن استخدام “أما بعد” في الخطب لم يكن مقتصرًا على الخلفاء والسلاطين بل شاع بشكل كبير بين العلماء والفقهاء، خاصة في مجال الفقه والتفسير، حيث كان الفقهاء يبدؤون خطبهم وفتاويهم بهذه العبارة كنوع من التنظيم الفكري لما سيطرحونه من مسائل علمية. وعليه، يُمكن النظر إلى “أما بعد” كأداة بلاغية تساعد في تشكيل بنية الخطاب، ومنح الجمهور تلميحًا لما سيأتي من كلمات ذات أهمية.

“أما بعد” في الأدب العربي

تعتبر “أما بعد” جزءًا من البنية الأدبية في الخطابات والرسائل في الأدب العربي التقليدي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك كتب المؤرخين والشعراء الذين اعتادوا بدء مؤلفاتهم بهذه العبارة، سواء كانت رسائل إلى الحكام أو تأليفات علمية أدبية. فقد كانت تلك العبارات بمثابة تمهيد للموضوعات الرئيسة، وتعتبر نموذجًا على البلاغة التقليدية في التقديم والتهيئة الفكرية للقارئ أو المستمع.

ومن هذا المنطلق، يمكن أن نستعرض مجموعة من الفئات الأدبية التي استخدمت “أما بعد” بطريقة مميزة، مثل:

• الشعراء: كانوا يستخدمون “أما بعد” في مقدمات قصائدهم الكبيرة، وذلك لتهيئة أذهان المستمعين للموضوعات التي سيعالجونها، سواء كانت في مجالات الهجاء أو المدح أو الفخر.

• الفلاسفة والمفكرون: كتب الفلاسفة وعلماء الكلام في العصر الإسلامي استخدموا “أما بعد” كطريقة لفتح المواضيع التي يرغبون في مناقشتها، مما يساعد في تقديم الأفكار المعقدة بشكل يسهل استيعابها.

• المؤرخون: استخدم المؤرخون “أما بعد” في بداية مؤلفاتهم وتقديماتهم، وذلك لمناقشة الأحداث التاريخية أو تقديم خلفية حول المواضيع التي سيتناولونها.

مغزى “أما بعد” في الخطاب الديني

في المجال الديني، وخاصة في الخطب الدينية، تعتبر “أما بعد” من العبارات التي تفتتح بها العديد من خطب الجمعة التي يلقيها أئمة المساجد، حيث تُستخدم كفاصل بين المقدمة الدينية أو الآيات القرآنية التي تسبق الخطبة، وبين الموضوع الرئيسي الذي يتم مناقشته خلال الخطبة. كما تعتبر “أما بعد” بمثابة الجسر الذي يعبر بين التمهيد الروحي والتوجيه الديني، وبين الأفعال والنصائح العملية التي يقدمها الخطيب للمستمعين.

إن استخدام هذه العبارة في الخطاب الديني يجعل القارئ أو المستمع يتوجه ذهنياً نحو الموضوعات التي تهمه بشكل رئيسي، مما يسهل فهم الفكرة الأساسية للخطبة أو الدرس الديني. وهذا يشير إلى الفطنة البلاغية التي كان يتمتع بها الخطباء في العصور الإسلامية.

التفسير البلاغي لعبارة “أما بعد”

على الرغم من أن “أما بعد” تبدو وكأنها جملة بسيطة، إلا أن لها أبعادًا بلاغية وفنية متعددة. فهي لا تقتصر على مجرد النقل من مقدمة إلى موضوع رئيسي، بل تُستخدم بشكل يعكس قدرة المتحدث أو الكاتب على التحكم في سير حديثه. تتسم العبارة في ذلك بمعنى “الانتقال” أو “الاستئناف”، مما يعكس قدرة المتحدث على إجراء فاصل بين الجزئين الأول والثاني من حديثه.

إن أسلوب “أما بعد” يظهر بوضوح في مختلف أساليب الخطاب العربي والإسلامي، ويعكس روعة التعبير البلاغي الذي يميز اللغة العربية في مختلف سياقاتها.

الخلاصة

إن “أما بعد” هي عبارة تقليدية تعكس جزءًا من الثقافة الأدبية والدينية في العالم العربي والإسلامي. وعلى الرغم من أنها قد تكون بدت وكأنها جزء بسيط من الخطاب العربي، إلا أنها حظيت بتاريخ طويل ومعنى عميق في تنظيم الخطابات والرسائل. بدأ استخدامها منذ العصر الجاهلي، إلا أن العصر الإسلامي شهد توسعًا في استخدامها حتى أصبحت أحد العناصر المميزة في الأدب العربي الرسمي.