كيف يستغل الإنترنت دماغك ليبقيك بعيداً عن التعلم؟
في عصرنا الحالي، أصبح الإنترنت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فهو وسيلة أساسية للحصول على المعلومات، والاتصال مع الآخرين، والترفيه. ومع ذلك، فقد أصبح الإنترنت في الوقت نفسه أحد أكبر العوامل التي تساهم في إضعاف قدرتنا على التركيز والتعلم الفعّال. إن دماغ الإنسان، كما تشير الأبحاث الحديثة، ليس معدًا لاستقبال الكم الهائل من المعلومات الذي نتعرض له عبر الإنترنت. بل إنه قد تم تصميمه ليواجه تحديات تختلف تمامًا عن تلك التي يفرضها العالم الرقمي المعاصر.
إن تأثير الإنترنت على قدرتنا على التعلم لا يقتصر على مجرد تشتيت الانتباه، بل يمتد ليؤثر في كيفية معالجتنا للمعلومات، وطريقة تفكيرنا، وأساليب حفظنا للمعلومات. في هذا المقال، سنستعرض كيفية استغلال الإنترنت لدماغنا وكيفية تأثير ذلك على قدرتنا على التعلم والتركيز.
1. التشتيت المستمر:
أحد أكبر التحديات التي يواجهها المتعلم في العصر الرقمي هو التشتيت المستمر. لا يتوقف الإنترنت عن إرسال الإشعارات والتنبيهات، سواء كانت من مواقع التواصل الاجتماعي، أو رسائل البريد الإلكتروني، أو تطبيقات الرسائل الفورية. هذه التنبيهات تعمل كإغراءات لا يمكن مقاومتها، مما يدفع الشخص إلى إيقاف ما كان يقوم به من دراسة أو عمل للرد على هذه الإشعارات.
من الناحية العصبية، يتسبب هذا النوع من التشتيت في تعطيل العمل الطبيعي للدماغ. عندما تتنقل من مهمة إلى أخرى، سواء كانت مهمة تعليمية أو عملية، لا يتمكن الدماغ من التعمق في الموضوع كما يجب. بدلاً من ذلك، ينتقل بين الأفكار بسرعة، مما يجعل من الصعب ترسيخ المعلومات في الذاكرة طويلة الأمد. وهذا يعني أن الشخص يضيع الوقت والجهد دون أن يحقق فعالية في التعلم أو في تحقيق أهدافه.
2. التعلم السطحي:
يحفز الإنترنت على نوع من التعلم السطحي الذي يتسم بامتصاص المعلومات دون معالجتها بعمق. ففي عالم الإنترنت، أصبح لدينا وصول فوري إلى كل نوع من المعلومات التي نحتاجها، ولكن هذه المعلومات غالبًا ما تكون مختصرة أو سطحية. يمكن للدماغ أن يتعامل مع هذا النوع من المعلومات بشكل أسرع، ولكن عندما لا يكون هناك وقت كافٍ أو جهد لتفسير المعلومات وتحليلها، فإن ما يحصل عليه الشخص لا يدخل في ذاكرته العميقة.
وبالنظر إلى هذه الظاهرة، نجد أن المستخدمين على الإنترنت أصبحوا يعتمدون بشكل متزايد على البحث السريع عبر محركات البحث مثل “جوجل”، وعند الحصول على الإجابة، يقومون بالانتقال إلى سؤال آخر دون أن يتوقفوا للتفكير في الموضوع بشكل معمق. هذه الطريقة في التعامل مع المعلومات لا تسمح بتطوير مهارات التفكير النقدي والتحليلي، الأمر الذي يقلل من قدرة الفرد على التعلم المتعمق.
3. الإفراط في التعددية:
في عالم الإنترنت، يُطلب من الدماغ معالجة العديد من المعلومات في وقت واحد. عندما يفتح المستخدم صفحة ويب أو يستخدم تطبيقًا، فإنه غالبًا ما يكون محاطًا بعدد كبير من الخيارات والروابط والمحتويات المختلفة. هذه التعددية تؤدي إلى ما يُسمى بـ “الازدواجية الإدراكية”، حيث يجد الدماغ نفسه محاصرًا في عدد لا يحصى من المحفزات التي تتطلب الانتباه والتفاعل.
البحث في الإنترنت والانتقال من صفحة إلى أخرى يشبه إلى حد كبير “مقارنة الخيارات”، الأمر الذي يساهم في إرهاق الدماغ وتشتيت تركيزه. وبالرغم من أن الدماغ البشري قادر على معالجة العديد من المعلومات، إلا أن كثرة الخيارات تؤدي إلى ما يُسمى بـ “التعب الإدراكي”، وهو ما يمنع الدماغ من الانتباه للمعلومات الهامة أو معالجتها بشكل عميق.
4. استخدام الإنترنت كأداة لتجنب التوتر:
يميل الكثيرون إلى استخدام الإنترنت كوسيلة للهروب من التوتر أو القلق. في أوقات الاستراحة أو الفترات العاطفية الصعبة، يلجأ البعض إلى تصفح الإنترنت أو مشاهدة مقاطع الفيديو القصيرة على منصات مثل “يوتيوب” أو “تيك توك” للتخفيف من الضغوط النفسية. وعلى الرغم من أن هذه الأنشطة قد تمنح بعض الراحة الفورية، إلا أنها قد تؤدي إلى تعميق مشاكل التركيز والإدمان على المتعة الفورية.
عندما يتعود الدماغ على الحصول على إشعارات سريعة أو ملذات فورية عبر الإنترنت، يفقد القدرة على تحمل العمل المستمر والمركّز. وبالتالي، فإن الدماغ يصبح أقل قدرة على التعامل مع التحديات المعرفية التي تتطلب صبرًا وتركيزًا طويل المدى، مثل تلك التي يتطلبها التعلم الفعلي.
5. التحفيز الفوري مقابل التحفيز الطويل المدى:
يستفيد الإنترنت من ميل الدماغ البشري إلى السعي وراء المكافآت الفورية. هذه المكافآت تأتي في شكل “إعجابات” على منصات التواصل الاجتماعي أو حتى مشاهدة مقاطع الفيديو المضحكة أو المثيرة. هذا النوع من التحفيز الفوري يؤدي إلى تقليل قدرة الدماغ على التعامل مع أنواع التحفيز التي تتطلب وقتًا طويلاً لإظهار النتائج، مثل التعلم المستمر أو تطوير المهارات المعقدة.
لقد أثبتت الدراسات أن المكافآت الفورية تجعل الدماغ يفرز مواد كيميائية مثل الدوبامين التي تجعل الشخص يشعر بالسعادة والراحة. ولكن، عندما يصبح الإنسان معتمدًا على هذه المكافآت الفورية، يفقد القدرة على الاستمتاع بالأشياء التي تتطلب عملًا مستمرًا مثل تعلم مهارة جديدة أو قراءة كتاب علمي طويل.
6. التعليم عبر الإنترنت: التحديات والفرص:
على الرغم من أن الإنترنت قد يبدو وكأنه يوفر فرصًا كبيرة للتعلم، إلا أن الطريقة التي يتم بها تقديم المعلومات عبر الإنترنت قد تساهم في تقليل الفعالية التعليمية. على سبيل المثال، بينما تقدم منصات التعليم الإلكتروني الدورات التدريبية المتنوعة، فإن استخدام هذه المنصات قد يكون أيضًا مسببًا لتشتيت الذهن. توفر هذه المنصات أدوات تفاعلية، مثل النقاشات عبر الإنترنت، والاختبارات الفورية، والتي يمكن أن تبدو مفيدة، ولكنها في كثير من الأحيان تجعل المتعلم يركز على “النتائج السريعة” بدلاً من التفاعل مع المادة بعمق.
7. السرعة الفائقة في الحصول على المعلومات:
يؤدي الوصول السريع إلى المعلومات عبر الإنترنت إلى قلة الصبر والقدرة على التعمق في دراسة الموضوعات. في الماضي، كان الشخص يحتاج إلى قراءة كتب أو مقالات علمية طويلة ليحصل على إجابة لسؤال ما. أما الآن، يمكن لأي شخص البحث عن أي موضوع خلال ثوانٍ عبر الإنترنت. ومع أن هذه القدرة على الوصول السريع للمعلومات قد تكون مفيدة في بعض الأحيان، إلا أنها تدفع المستخدمين إلى تجنب التعلم العميق والبحث المنهجي.
8. التهديد المستمر للمقارنة الاجتماعية:
في بيئة الإنترنت، يُعرض الأشخاص باستمرار لصور ومقاطع فيديو للمستخدمين الآخرين الذين يظهرون في أفضل حالاتهم، مما يمكن أن يؤثر على صحتهم النفسية والذهنية. هذه المقارنات المستمرة مع الآخرين يمكن أن تؤدي إلى مشاعر بالحرمان أو الإحباط، مما يسبب في النهاية عدم القدرة على التركيز على الأمور الهامة مثل التعلم. يشعر الشخص بالإحباط من مشاهدته لحياة الآخرين المليئة بالنجاح، مما يعرقل قدرة الدماغ على التفكير بوضوح والتركيز على المهام التي تحتاج إلى إتمامها.
9. إغراق المعلومات والانتقاء السطحي:
إن الإنترنت مليء بالمعلومات، ولكن معظم هذه المعلومات ليست مصممة بطريقة تسمح بالتعلم العميق. يتصفح الناس الإنترنت للحصول على الأخبار، أو لمتابعة مقاطع الفيديو، أو لقراءة المدونات، ولكن نادرًا ما يتمكنون من تحليل هذه المعلومات بعمق. بدلاً من التفكير النقدي والتحليل المتعمق، يتصفح الأشخاص المواقع بسرعة ويحصلون على فهم سطحي للمعلومات، مما يقلل من فعاليتهم في التعلم.
10. التأثير على الذاكرة طويلة المدى:
عند استخدام الإنترنت، يزداد الميل إلى الاعتماد على محركات البحث وتطبيقات الهواتف الذكية لحفظ المعلومات بدلًا من الاعتماد على الذاكرة الشخصية. هذا يؤدي إلى تقليل قدرتنا على تخزين المعلومات في الذاكرة طويلة المدى. وقد أظهرت الدراسات أن الاعتماد المستمر على الإنترنت لا يساعد الدماغ على تحسين الذاكرة أو الاحتفاظ بالمعلومات بفعالية. بدلاً من ذلك، يتجه الدماغ إلى تخزين المعلومات بطرق أسرع ولكن أقل فاعلية.
في الختام
إن الإنترنت، رغم فوائده العديدة، يعتبر سلاحًا ذا حدين. فعلى الرغم من أنه يفتح أمامنا أبوابًا واسعة للوصول إلى المعرفة، إلا أنه في الوقت نفسه يساهم في تدمير قدرتنا على التركيز والتعلم العميق. إن فهم تأثير الإنترنت على دماغنا يمكن أن يساعدنا في تطوير استراتيجيات للتعامل مع هذا التحدي، وتحقيق توازن بين الاستفادة من الإنترنت والحفاظ على قدراتنا العقلية وال
