حتى لا تبدو غبيًا في نظر الأطفال: تأملات في السلوك، المعرفة، والقدوة

في عصر المعرفة والانفتاح اللامحدود، لم يعد من السهل إخفاء الجهل أو التظاهر بالحكمة أمام من هم أصغر منا سنًا. الأطفال اليوم ليسوا كما كانوا بالأمس، إذ أصبحوا أكثر وعيًا، وأسرع فهما، وأشد نقدًا، خاصةً في ظل توافر التكنولوجيا التي تمنحهم فرصة الوصول إلى كمٍّ هائل من المعلومات منذ سنٍّ مبكرة. ولذلك، بات من الضروري أن يحرص الكبار، سواء كانوا آباءً أو معلمين أو أي بالغ يتعامل مع الأطفال، على تعزيز رصيدهم المعرفي والسلوكي، حتى لا يفقدوا هيبتهم أو مكانتهم أمام أعينهم الصغيرة المتسائلة.

فهم طبيعة الأطفال في العصر الحديث

الطفل لم يعد مجرد متلقٍ سلبيٍ لما يقدمه له البالغون. أصبح يمتلك أدوات تحليلية تسمح له بتمييز التناقضات، ورصد نقاط الضعف، ومقارنة ما يُقال بما يُفعل. هذا الوعي المبكر ينبع من عوامل عدة، أهمها:

• تعرضه المبكر لوسائل الإعلام والمنصات الرقمية؛ التي تُعرّفه على مفاهيم معقدة كالنقد، المنطق، والبحث.

• تنوع البيئات التعليمية؛ حيث لم تعد المدارس تعتمد فقط على التلقين، بل باتت تزرع في الطفل القدرة على النقاش والجدل العلمي.

• انفتاحه على أنماط متعددة من السلوكيات من خلال مشاهداته اليومية لأشخاص من خلفيات متنوعة.

إن كل ذلك يجعل الطفل لا يقبل بالمعلومات دون تمحيص، ولا يصدق كل ما يسمعه، بل يزن ويقارن ويحكم. من هنا، فإن التهاون في الظهور بمظهر العارف، الصادق، والمنطقي أمامه قد يؤدي إلى فقدان الثقة والاحترام، وربما إلى نتائج تربوية سلبية.

أخطاء شائعة تجعل الكبار يبدون أغبياء في نظر الأطفال

تتعدد المواقف التي يخطئ فيها الكبار في التعامل مع الأطفال، وتُسهم بشكل مباشر في ترسيخ صورة غير إيجابية عنهم. ومن أبرز هذه الأخطاء:

1. التظاهر بالمعرفة عند الجهل

من أكثر الأخطاء فداحة هو أن يُسأل الكبير عن معلومة معينة فيُجيب بجواب خاطئ أو غير دقيق، فقط لأنه لا يريد أن يعترف بعدم معرفته. الطفل قد لا يُصحح له في اللحظة نفسها، لكنه سيحتفظ بالمعلومة، ثم يبحث عنها، وحين يكتشف زيفها، سيتكوّن لديه انطباع سلبي تجاه صدق ذلك البالغ أو كفاءته.

2. السخرية من أسئلة الأطفال

عندما يطرح الطفل سؤالًا عميقًا أو خارجًا عن المألوف، ويُجاب عليه بسخرية أو تسفيه، يشعر أن من أمامه لا يملك القدرة على مواكبته، أو أن ذلك البالغ يخشى خوض النقاشات الفكرية. هذه السخرية لا تعكس تفوقًا، بل جهلًا وتعاليًا، وكلاهما مرفوض في نظر الطفل الذكي.

3. استخدام مفردات لا تُفهم أو مُتضادة مع الواقع

يلجأ بعض الكبار لاستخدام مفردات معقدة أو اصطلاحات غامضة ظنًا منهم أنها تُضفي على حديثهم نوعًا من الوقار أو السلطة المعرفية. غير أن الأطفال يستطيعون التمييز سريعًا بين اللغة الحقيقية واللغة الزائفة، كما أنهم يرصدون التناقض بين الأقوال والأفعال.

4. الإنكار أمام الأدلة

قد يُخطئ البالغ في واقعة معينة، ويُصرّ على الإنكار رغم وجود شهود أو أدلة قاطعة. هذا التصرف، من منظور الطفل، لا يعبر عن ذكاء بقدر ما يُشير إلى خوف من الاعتراف، وضعف في تحمل المسؤولية.

5. الردود القاطعة دون نقاش

“لأني قلت ذلك”، أو “افعل فقط ولا تسأل”، هي عبارات يستخدمها بعض الكبار حين يعجزون عن تبرير قراراتهم. هذه الردود تفقد قيمتها في بيئة أصبح فيها التفكير النقدي مهارة أساسية تُدرَّس في المدارس، وتُمارَس يوميًا في مناهج الأطفال.

كيف تُظهر ذكاءك أمام الأطفال؟

لا يتطلب الأمر شهادة أكاديمية أو مستوى عاليًا من الثقافة كي لا تبدو غبيًا أمام الأطفال. بل يكفيك التسلّح بمجموعة من المبادئ الإنسانية والمعرفية التي تعكس قدرتك على التفاعل الناضج معهم.

1. الصدق المعرفي والاعتراف بالجهل

أن تقول “لا أعلم، لكن يمكننا أن نبحث معًا”، هو موقف ينمّ عن نضج وصدق، لا عن ضعف أو جهل. الطفل يحترم هذا النوع من التواضع المعرفي، ويعتبره أحد أشكال الذكاء.

2. الاحترام الكامل لأسئلتهم وأفكارهم

عندما يُطرح سؤال من قبل الطفل، لا تنظر إليه من منطلق بساطة العمر أو ضآلة التجربة. قد يكون سؤاله أكثر عمقًا من كثير من الأسئلة التي يطرحها الكبار. الاستماع باهتمام، والردّ المنطقي، يعزز من احترامه لك ويزيد من ثقته بك.

3. تجنب النفاق اللفظي والتربوي

الطفل يُراقب، ويحلل، ويربط بين القول والفعل. إذا كنت تطلب منه عدم الصراخ ثم ترفع صوتك، أو تحثّه على القراءة وأنت لا تقرأ، فإن ذلك يُضعف مصداقيتك، ويجعلك تبدو في عينيه متناقضًا وغير موثوق.

4. تطوير الذات أمام أعينهم

حين يرى الطفل أن من يتعامل معه يسعى دومًا للتطور، بالقراءة أو التعلم أو طرح الأسئلة، فإنه يقتدي به تلقائيًا، ويعتبره مرجعًا يمكن الوثوق به. أما الجمود المعرفي، فيُفسَّر ككسل عقلي أو تخلف عن العصر.

5. الاعتراف بالأخطاء وتحمل المسؤولية

الاعتراف بخطأ ما لا يقلل من قيمتك أمام الطفل، بل يزيدها. تحمل المسؤولية يُعلمه معنى الشجاعة والصدق والإنصاف. وهي قيم أساسية تُعلي من شأنك أمام نظره.

دور البيئة الأسرية والتعليمية في تشكيل هذه الصورة

السياقات الاجتماعية والثقافية التي ينشأ فيها الأطفال تؤثر كثيرًا على قدرتهم على تمييز الذكاء من الغباء، والصدق من التظاهر. الأسر التي تُشجع النقاش، وتقبل النقد، وتسمح بتبادل الآراء، تُخرج أطفالًا أذكياء، وواعين، ويصعب خداعهم.

في المقابل، البيئات السلطوية التي تعتمد على الصراخ والتلقين، تُنتج أطفالًا إما خاضعين لا يفكرون، أو متمردين لا يثقون. وفي كلتا الحالتين، فإن من يتعامل معهم دون استعداد فكري أو تربوي سيبدو في نظرهم ضعيفًا أو مُغيبًا أو حتى غير جدير بالاحترام.

الذكاء في نظر الطفل: ليس في الكم، بل في السلوك

الطفل لا يزن من أمامه بحجم المعلومات التي يمتلكها فقط، بل بالأخص بالسلوك، بالقدوة، وبالقدرة على التفاعل السويّ. من يتحدث بلغة صادقة، وينصت باهتمام، ويتصرف بعدل، يبدو أذكى بمراحل من الذي يتباهى بشهاداته أو معلوماته، لكنه يعجز عن إقناع طفل صغير بفكرة بسيطة.

وفي هذا الإطار، يصبح من الضروري إعادة تعريف الذكاء أمام الأطفال: إنه ليس فقط ما تعرفه، بل كيف تتعامل مع ما لا تعرفه، وكيف تنقله، وكيف تتصرف عند الخطأ، وكيف تُشعر من أمامك بأنه محترم ومُقدَّر.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين سلوكيات تبدو ذكية وسلوكيات تُظهر الغباء أمام الأطفال:

الخلاصة:

حتى لا تبدو غبيًا في نظر الأطفال، عليك أن تعيد النظر في طريقة تواصلك، وأن تتجاوز فكرة الهيبة المصطنعة، أو السلطة الفارغة، وتستبدلها بالفهم الحقيقي، والاحترام، والصدق، والتواضع. فهؤلاء الأطفال الذين نعتقد أنهم لا يدركون، يرصدون كل شيء، ويصنّفون من حولهم بدقة لا تخطئ. أن تكون ذكيًا أمامهم، لا يعني أن تُملي عليهم ما تعرفه، بل أن تُجسّد أمامهم كيف يكون الإنسان الحقيقي: صادقًا، قابلًا للتعلم، ومتواضعًا في حضرة المعرفة.

المراجع:

1. Piaget, J. (1972). The Psychology of the Child. Basic Books.

2. Vygotsky, L. S. (1978). Mind in Society: The Development of Higher Psychological Processes. Harvard University Press.