فقه الصيام في بلوغ المرام

فقه الصيام في كتاب بلوغ المرام: دراسة تحليلية موسعة

يُعد كتاب بلوغ المرام من أدلة الأحكام للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) من أبرز الكتب في الفقه المقارن القائم على الأدلة الحديثية، حيث جمع فيه مؤلفه الأحاديث التي استنبط منها الفقهاء الأحكام الشرعية في مختلف أبواب الفقه، مشفوعة بالتخريج والعزو للمصادر الأصلية، مما جعله مرجعًا رئيسًا للعلماء وطلبة العلم على مرّ العصور. ومن بين أبوابه البارزة التي نالت عناية كبيرة باب “الصيام”، الذي يُعتبر من أهم الأبواب الفقهية نظرًا لمكانة الصيام في الإسلام، ولتعلقه بعبادة عظيمة ذات أحكام دقيقة وتفصيلات متعددة.

يحتوي باب الصيام في كتاب بلوغ المرام على مجموعة مختارة من الأحاديث النبوية التي تتعلق بأحكام الصيام، بدءًا من بيان فرضيته وفضله، مرورًا بأحكام النية، والمفطرات، وصيام التطوع، وانتهاءً بأحكام الاعتكاف. ويُلاحظ أن ابن حجر العسقلاني لم يقتصر على جمع الأحاديث فقط، بل عمد إلى اختيار الروايات الصحيحة أو الحسنة، وتخريجها من كتب الحديث المعتبرة، مثل: الصحيحين، والسنن الأربعة، ومسند الإمام أحمد، وموطأ مالك، وغيرها.

الصيام في ضوء السنة النبوية: المفهوم والفضل

الصيام ركن من أركان الإسلام الخمسة، وقد وردت نصوص كثيرة تبين فضله، ومنها الحديث الذي افتتح به ابن حجر باب الصيام، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به” [متفق عليه]. وهذا الحديث يُعتبر من أعظم الأحاديث التي تُبرز منزلة الصيام عند الله، إذ اختصه الله لنفسه، وهو ما يدل على شرف هذه العبادة وخلوصها من الرياء، فهي عبادة سرية لا يطلع عليها إلا الله.

وقد نقل ابن حجر هذا الحديث ضمن إطار يُظهر العناية الإلهية بالصائمين، كما أورد في الكتاب ما يدل على أن الصيام جُنَّة من المعاصي، وكفارة للخطايا، ومؤهّل لدخول الجنة من باب “الريان”، كما ورد في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. هذه الأحاديث شكّلت القاعدة الفقهية لفهم طبيعة الصيام التعبدية وفضله الأخروي.

أحكام النية وبداية الصيام

تناول ابن حجر في باب الصيام من بلوغ المرام الأحاديث المتعلقة بالنية وأثرها في صحة الصيام، ومن أبرزها حديث حفصة رضي الله عنها عن النبي ﷺ: “من لم يُبيّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له” [رواه النسائي والترمذي وابن ماجه]. وقد نقل ابن حجر هذا الحديث ليبين أن صيام الفريضة لا يصح إلا بالنية من الليل، وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء، باستثناء بعض الأحناف الذين أجازوا نية الصيام حتى منتصف النهار.

وفي هذا السياق تظهر أهمية الجانب المقارن في منهج ابن حجر، إذ لم يذكر فقط الروايات، بل اختار منها ما هو أصل في الخلاف الفقهي، بما يسمح للدارس بفهم منطلقات الأئمة في فروع المسائل.

المفطرات وأسباب الفطر

من أبرز أبواب الصيام التي شغلت الفقهاء ما يتعلق بالمفطرات، وقد جمع ابن حجر في هذا الباب عددًا من الأحاديث التي تُفصل ما يُفسد الصوم وما لا يفسده. ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “إذا نسي فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه” [متفق عليه]. وفيه دلالة على أن الأكل أو الشرب نسيانًا لا يُفطر الصائم، وهو قول الجمهور.

كما أورد ابن حجر حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه، وفيه: “بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا” [رواه أصحاب السنن]. ويُفهم من الحديث أن إيصال الماء إلى الجوف في الصيام يُفطر، ولذلك يجب الحذر عند المبالغة في المضمضة والاستنشاق، وهي من مفردات الأحكام التي يُستنبط منها قاعدة فقهية في المفطرات.

كذلك نقل ابن حجر حديث النبي ﷺ الذي قال فيه: “من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقضِ” [رواه أبو داود والترمذي]. وهذا الحديث يُبيّن الفرق بين القيء غير المتعمد، الذي لا يُفطر، والمتعمد، الذي يُوجب القضاء، وقد اعتمده الفقهاء في باب الأعذار.

صيام التطوع والنوافل

تناول ابن حجر أحاديث كثيرة في صيام النوافل، كصيام يوم عرفة، ويوم عاشوراء، وصيام الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام داود عليه السلام، وهي سنة يوم ويوم. ومن ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: “صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده” [رواه مسلم].

كما ورد حديث في صيام عاشوراء، وفيه قال النبي ﷺ: “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع” [رواه مسلم]، وفيه دلالة على استحباب صيام تاسوعاء مع عاشوراء مخالفةً لليهود. ويُظهر هذا الجزء من الباب فقه الأولويات في التطوع بالصيام.

أحكام الاعتكاف وارتباطه بالصيام

خُتم باب الصيام في بلوغ المرام بأحاديث الاعتكاف، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ “كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله” [متفق عليه]. وقد بيّن ابن حجر من خلال هذه الرواية أن الاعتكاف من السنن المؤكدة في العشر الأواخر من رمضان، وهو ما داوم عليه النبي ﷺ وتركه مرة واحدة، ثم اعتكف عشرين يومًا في العام الذي بعده.

واشتمل هذا الباب أيضًا على مسألة اشتراط الصيام في الاعتكاف، وهي من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء، حيث يرى جمهورهم أنه لا يُشترط، بينما ذهب المالكية إلى اشتراطه، وقد أورد ابن حجر الروايات التي تحتمل الوجهين، مما يُتيح النظر المقارن وتحليل الخلاف.

منهج ابن حجر في باب الصيام

من أبرز السمات المنهجية في عرض ابن حجر لأحاديث الصيام:

• الترتيب الموضوعي: حيث انتقل من فضائل الصيام إلى نية الصيام، ثم المفطرات، فالصيام التطوعي، فالاعتكاف، وهو ترتيب يُسهل على القارئ استيعاب الموضوعات الفقهية بشكل تدريجي.

• الاقتصار على الأحاديث المؤثرة فقهيًا: لم يُثقل الباب بالروايات الضعيفة أو الشاذة، بل حرص على اختيار ما عليه الاعتماد الفقهي أو ما دار حوله الخلاف، مما يدل على وعيه الفقهي العميق.

• الإحالات التخريجية الدقيقة: حيث عزى كل حديث إلى مظانه من كتب الحديث، وهو أمر مهم للباحثين والمحققين.

• التركيز على الأحاديث المختلف في دلالتها: لتكون أساسًا للمقارنة بين المذاهب، وهذا ما يميز بلوغ المرام عن كتب الحديث الأخرى.

جدول مختصر لأهم القضايا الفقهية في باب الصيام من بلوغ المرام

الأثر الفقهي والعملي لباب الصيام في الواقع المعاصر

يشكّل باب الصيام في بلوغ المرام مرجعًا فقهيًا وعلميًا لا غنى عنه في فقه الصيام؛ لما يتضمنه من ضبط للأحاديث الأساسية، وربطها بأحكام فقهية دقيقة، ومقارنة بين المذاهب في ضوء الروايات. وفي زمن تتعدد فيه الفتاوى وتتنوع وسائل الإعلام، فإن العودة إلى النصوص الحديثية الصحيحة، كما جمعها ابن حجر، تُمثّل حصنًا علميًا يعصم المسلم من الفوضى الفقهية.

كما أن التوسع في فقه الصيام كما ورد في هذا الكتاب يُفيد في الإجابة عن النوازل المعاصرة، كأحكام الصيام في السفر الحديث، واستخدام الإبر الطبية، والتغذية الوريدية، وكلها مسائل لا يمكن الخوض فيها إلا باستيعاب الأحاديث وتأصيل المسائل من منابعها.

خاتمة

باب الصيام في بلوغ المرام هو من الأبواب التي تُجسّد التوازن بين الرواية والدراية، إذ جمع ابن حجر فيه بين أصالة النصوص الحديثية ودقة الانتقاء وعمق الأثر الفقهي، مما جعله من أهم الموارد التعليمية والتدريبية في علم الفقه الإسلامي. وبدراسة هذا الباب دراسة تحليلية متعمقة، يظهر للقارئ مدى ثراء الشريعة وتفصيلها لأدق تفاصيل العبادات، مما يُعزز من وعي المسلم الديني ويُمكّنه من أداء العبادة على بصيرة ويقين.

المراجع:

1. ابن حجر العسقلاني، بلوغ المرام من أدلة الأحكام، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الفكر.

2. النووي، شرح صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي.