بناء المسجد الأقصى وتاريخه

بناء المسجد الأقصى: التاريخ، الرمزية والتحديات

يعد المسجد الأقصى من أقدس الأماكن في العالم الإسلامي، ليس فقط من حيث مكانته الدينية، بل أيضًا من حيث رمزيته التاريخية والثقافية. يقع المسجد في قلب مدينة القدس، وهي المدينة التي شهدت عبر العصور العديد من الأحداث المهمة التي شكلت مسار التاريخ الإسلامي. يشكل المسجد الأقصى جزءًا من معقد الحرم القدسي الشريف، ويعتبر من أقدم المساجد في العالم. ولكن السؤال الذي يطرحه العديد من المسلمين وغيرهم هو: من بنى المسجد الأقصى؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نغوص في التاريخ الإسلامي القديم ونستعرض الروايات المختلفة حول بناء المسجد الأقصى، فضلاً عن تطوره في العصور المختلفة.

المسجد الأقصى في القرآن الكريم والسنة النبوية

تعد القدس والمسجد الأقصى جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الإسلامي، ويظهر ذلك بوضوح في القرآن الكريم. فقد ذكر المسجد الأقصى في سورة الإسراء، حيث قال الله سبحانه وتعالى:

“سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”

(سورة الإسراء، آية 1).

تذكر هذه الآية المباركة حادثة الإسراء والمعراج التي أسري فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى، ومنها صعد إلى السماوات. هذا الحدث يجعل المسجد الأقصى يحمل مكانة خاصة في قلوب المسلمين. وبذلك، يكتسب المسجد الأقصى قدسية لا تضاهيها قداسة في العالم الإسلامي.

أما في السنة النبوية، فقد وردت العديد من الأحاديث التي تشير إلى فضل المسجد الأقصى وأهمية الصلاة فيه. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى” (رواه البخاري). وهذه الأحاديث تعزز مكانة المسجد الأقصى في الدين الإسلامي، مما يعكس عراقة هذا المكان واعتباره مقصدًا دينيًا مهمًا منذ زمن بعيد.

من بنى المسجد الأقصى؟ الروايات التاريخية

يشير التاريخ الإسلامي إلى أن بناء المسجد الأقصى كان في عهد النبي داود عليه السلام، ولكن هناك خلاف حول من قام بتأسيسه بشكل كامل. وفيما يلي شرح مفصل حول هذه المسألة:

1. النبي داود عليه السلام:

من أبرز الروايات التاريخية التي تذكر أن النبي داود عليه السلام هو الذي بدأ في بناء المسجد الأقصى، وهي الرواية التي يستند إليها البعض في الإجابة عن سؤال: من بنى المسجد الأقصى؟ يرى البعض أن هذا البناء تم في زمنه وأنه كان يمثل بداية تأسيس المكان الذي أصبح فيما بعد أحد أقدس المواقع الإسلامية.

2. النبي سليمان عليه السلام:

لكن هناك رواية أخرى تشير إلى أن النبي سليمان عليه السلام، ابن النبي داود عليه السلام، هو الذي أكمل بناء المسجد الأقصى بشكل كامل. يقال إن النبي سليمان عليه السلام كان قد أضاف أجزاء من الهيكل الذي كان موجودًا في ذلك الوقت. وكانت القدس في تلك الفترة مركزًا للديانات السماوية، وقد شهدت العديد من التوسعات والتحسينات في العصر السليماني.

3. عهد الخليفة عبد الملك بن مروان:

مع مرور القرون وتغير الفترات الزمنية، تعرض المسجد الأقصى لتحديات كثيرة من الزلازل والغزوات. في العهد الأموي، وتحديدًا في السنة 72 هجريًا (691 ميلاديًا)، قام الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ببناء المسجد الأقصى بشكل مستدام، وأقام فيه العديد من التعديلات التي جعلته على ما هو عليه الآن. كان عبد الملك بن مروان قد قرر بناء قبة الصخرة في نفس الموقع الذي يعتقد المسلمون أنه مكان المعراج، مما أضاف قيمة روحية كبيرة للمسجد الأقصى.

المسجد الأقصى في العصور المختلفة

شهد المسجد الأقصى العديد من التغييرات على مر العصور. وبعد بناء عبد الملك بن مروان للقبة، استمر المسجد في التطور على يد خلفائه. ومن ثم جاء الفتح الإسلامي للقدس بقيادة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي حافظ على المسجد وأصبح له دور كبير في تعزيز التواجد الإسلامي في المدينة. وفي العصور العباسية والفاطمية والمماليك، استمرت عمليات الترميم والإضافة للمسجد الأقصى، حيث قام العديد من الحكام بتجميل وتجديد المبنى.

أما في العهد العثماني، فقد خضعت القدس بالكامل للإدارة العثمانية، وظل المسجد الأقصى تحت إشرافهم. في تلك الفترة، تم تعزيز المساجد والمرافق المحيطة بها، بما في ذلك الساحات والمآذن.

المسجد الأقصى في العصر الحديث

مرت المدينة بالكثير من التحولات بعد سيطرة القوى الغربية والاحتلالات المختلفة. في القرن التاسع عشر، وأثناء فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، بدأت تظهر محاولات لتغيير معالم المسجد الأقصى. استمر الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وخاصة بعد عام 1967، في فرض سيطرته على المدينة المقدسة، بما في ذلك المسجد الأقصى. ورغم هذا، يظل المسجد الأقصى محط أنظار المسلمين في كافة أنحاء العالم، ويواصل تأدية دوره الديني والروحي.

الأهمية التاريخية والدينية للمسجد الأقصى

يعتبر المسجد الأقصى ثاني أقدس مسجد في الإسلام بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة. مكانته عظيمة في قلوب المسلمين، ولذلك يعد الحفاظ عليه وحمايته من أولويات الأمة الإسلامية. يمثل المسجد الأقصى رمزًا للوحدة الإسلامية، فهو شاهد على العصر الذهبي للإسلام في فترة الخلافة الإسلامية، ويعتبر أحد أبرز رموز الانتصار والتحدي أمام القوى المحتلة.

المسجد الأقصى هو مركز ديني وحضاري في قلب القدس. كما أن له أهمية خاصة في الطوائف اليهودية والمسيحية، باعتباره مكانًا مباركًا يعبر عن بداية رحلات الأنبياء. ورغم الصراع المستمر على القدس، لا يزال المسجد الأقصى يمثل مرجعية دينية وحضارية للأمة الإسلامية جمعاء.

التحديات المعاصرة

على الرغم من التحديات الجغرافية والسياسية، يظل المسجد الأقصى بمثابة شاهد حي على الصراع بين الاحتلال الإسرائيلي وحقوق الفلسطينيين. تبقى هذه القضية قضية إسلامية وعربية ودولية، تحظى باهتمام عالمي. إن الحفاظ على المسجد الأقصى وحمايته من التدمير والتهويد يعتبر من أسمى أهداف الأمة الإسلامية في العصر الحديث، ويجب على العالم الإسلامي الوقوف بكل قوة لصد أي محاولات تهدف إلى تغيير معالم المسجد الأقصى أو المساس بمقدساته.

خلاصة

لقد مر المسجد الأقصى بتطورات هائلة منذ بناءه الأول، بدءًا من العهدين الملكي والديني إلى العصور الإسلامية المختلفة، وصولاً إلى التحديات الحديثة. ورغم كل التغيرات التي طرأت عليه، يظل المسجد الأقصى واحدًا من أهم المعالم الإسلامية في العالم. وهو أيضًا يعكس روحانية وجمال المدينة المقدسة، حيث يُعتبر أكثر من مجرد مكان عبادة بل هو رمز من رموز الهوية الإسلامية والقدس.