حضارات العراق القديمة: مهد الحضارة الإنسانية
يعد العراق من أقدم الموائل الحضارية في العالم، حيث شكلت حضاراته القديمة حجر الزاوية في تطور الثقافة الإنسانية. من خلال موقعه الجغرافي الفريد بين نهري دجلة والفرات، نشأت في العراق العديد من الحضارات التي أثرت في التاريخ البشري بشكل عميق. من بين أبرز تلك الحضارات، نجد حضارة السومريين، والأكديين، والبابلية، والآشورية، التي تميزت بتطوراتها العلمية والثقافية والفنية. هذا المقال يسلط الضوء على هذه الحضارات العريقة التي تركت بصماتها في التاريخ الإنساني.
1. الحضارة السومرية:
تعتبر حضارة السومريين من أقدم الحضارات التي نشأت في منطقة بلاد ما بين النهرين، والتي تعود إلى حوالي 3500 قبل الميلاد. وكان السومريون قد أسسوا أولى المدن في العالم مثل مدينة أور، وأريدو، وأوما، ولكش، وغيرها. وقد استطاعوا أن يحققوا العديد من الإنجازات المهمة في مجال الزراعة، حيث قاموا بتطوير تقنيات الري التي استفادوا منها من خلال نظام القنوات المائية التي كانت تسحب المياه من نهري دجلة والفرات.
إضافة إلى ذلك، فإن السومريين هم من ابتكروا الكتابة المسمارية، التي تعتبر أقدم شكل للكتابة في التاريخ. وقد استخدموا هذه الكتابة لتسجيل الأحداث اليومية والمعاملات التجارية، وكذلك لتوثيق نصوص دينية وأدبية. كما أن السومريين قد أسسوا نظاماً قانونياً عرف بشريعة “أور نمو”، التي كانت تهدف إلى تحقيق العدالة في المجتمع.
2. الحضارة الأكدية:
تعد الحضارة الأكادية من الحضارات التي نشأت شمال السومريين في بلاد ما بين النهرين. وقد استطاع الملك الأكدي “سرجون الأكدي” أن يوحد جميع مدن بلاد ما بين النهرين تحت حكمه في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد. وقد شكلت الإمبراطورية الأكادية قوة كبيرة في الشرق الأوسط القديم، وامتد نفوذها ليشمل مناطق واسعة مثل بلاد الشام وآسيا الصغرى.
أدى هذا التوسع إلى تبادل ثقافي وتجاري بين الأكديين والشعوب الأخرى، مما ساعد على تعزيز الحضارة الأكادية في مجالات مثل الفن والعمارة والعلوم. وقد استخدم الأكديون الكتابة المسمارية أيضاً، وابتكروا لغة أكادية، التي أصبحت فيما بعد لغة الثقافة والإدارة في المنطقة.
3. الحضارة البابلية:
ظهرت الحضارة البابلية بعد انهيار الإمبراطورية الأكادية، وكان أبرز ملوكها هو “حمورابي”، الذي حكم في الفترة ما بين 1792 و1750 قبل الميلاد. وقد عُرف حمورابي بإنشاء شريعة قانونية تُسمى “شريعة حمورابي”، وهي واحدة من أقدم الشرائع المكتوبة في التاريخ، وركزت على العدالة والمساواة.
تُعد مدينة بابل من أشهر المدن في التاريخ القديم، حيث كانت مركزًا دينيًا وتجاريًا هامًا. وكانت تحتوي على العديد من المعالم العمارية الرائعة، مثل “حدائق بابل المعلقة” التي تعتبر إحدى عجائب العالم السبع القديمة. كما أن البابلين حققوا تقدمًا في الفلك، حيث تمكّنوا من حساب الوقت بشكل دقيق، وتطوير تقاويم تعتمد على الدورة الشهرية.
4. الحضارة الآشورية:
نشأت الحضارة الآشورية في شمال بلاد ما بين النهرين، وكان لها تأثير كبير على تاريخ الشرق الأدنى القديم. كانت آشور في البداية مدينة صغيرة، لكنها تحولت مع مرور الوقت إلى إمبراطورية عظيمة امتدت من تركيا الحالية إلى العراق وسوريا وإيران.
عرفت الحضارة الآشورية بقوتها العسكرية وتوسعها الواسع. وكانت جيوشها تعتبر من أقوى الجيوش في ذلك العصر، حيث استخدموا آلات حربية متطورة مثل العربات الحربية والسهام القوية. وقد تمكن الآشوريون من إنشاء إمبراطورية كبيرة تتسم بالانضباط والتنظيم العسكري.
على الرغم من تركيزهم على القوة العسكرية، كان للآشوريين إنجازات كبيرة في مجالات أخرى مثل الفنون، حيث استخدموا النقوش الحجرية لتوثيق انتصاراتهم وحروبهم. كما كانت الآشورية مركزًا هامًا في مجال الكتابة المسمارية.
5. الإنجازات العلمية والفكرية:
لطالما كانت حضارات العراق القديمة مهدًا للإنجازات الفكرية والعلمية التي لا تزال تُستخدم حتى اليوم. في مجال الرياضيات والفلك، استطاع السومريون والبابلون تحديد تقاويم دقيقة بناءً على ملاحظاتهم للأجرام السماوية. وقد أسسوا نظامًا رقميًا يعتمد على القاعدة الستينية، التي تُستخدم حتى الآن في قياس الوقت والزوايا.
أما في مجال الطب، فقد قدم الأطباء السومريون والبابلون معرفة متقدمة في الطب والعلاج، حيث تم تدوين وصفات طبية لعلاج الأمراض المختلفة، وأصبح العديد من هذه الوصفات أساسًا للطب في الحضارات القديمة.
6. الفن والعمارة:
تجسد الفنون والعمارة في حضارات العراق القديمة مزيجًا من الإبداع والجمال. على سبيل المثال، كانت معابد السومريين شاسعة ومزخرفة بشكل كبير، مع مداخل ضخمة وأعمدة مزخرفة. وفي بابل، تم بناء “بوابة إيساجيلا” الشهيرة، التي كانت مغطاة ببلاطات من الآجر المزخرف.
كانت الآشوريات تشتهر أيضاً بفن النحت، حيث قاموا بنحت تماثيل ضخمة تمثل آلهتهم، وكذلك جدران منقوشة توضح مشاهد من الحروب والمعارك.
7. الدين والمعتقدات:
كانت الأديان في حضارات العراق القديمة تتمحور حول تعدد الآلهة، وكان لكل مدينة إلهها الخاص. في الحضارة السومرية، كانت الآلهة تمثل قوى الطبيعة مثل السماء والأرض والماء، وكان لها معابد ضخمة وأعياد دينية منتظمة. أما في بابل، فقد كان “مردوخ” هو الإله الأسمى، وارتبطت عبادته بالكثير من الطقوس والتقاليد.
كان الآشوريون أيضًا يعبدون العديد من الآلهة، وكان من أشهر آلهتهم “آشور”، الذي كان يُعتبر الإله الوطني.
8. الانهيار والتأثير على العالم:
على الرغم من أن حضارات العراق القديمة شهدت تطورًا غير مسبوق في مختلف المجالات، إلا أن معظمها انهار بسبب غزوات وهجمات متتالية من شعوب أخرى مثل الفرس والميديين. لكن ورغم انهيار تلك الحضارات، فإن تأثيرها على العالم كان عميقًا، حيث قامت العديد من الثقافات اللاحقة بالبناء على الأسس التي وضعتها حضارات العراق القديمة، سواء في العلوم أو الفنون أو القوانين.
إن حضارات العراق القديمة تشكل جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الإنسانية، وقد تركت إرثًا غنيًا ساعد في تشكيل حضارات العالم الحديث. وما زالت هذه الحضارات تُدرّس وتُبحث في الأوساط الأكاديمية، لتظل شاهدًا على إنجازات الإنسان عبر العصور.
