من اكتشف كروية الأرض؟
عُرفت فكرة كروية الأرض منذ العصور القديمة، ولكن كانت هناك فترة طويلة من الزمن كانت فيها البشرية تعتقد أن الأرض مسطحة. تتعدد الأساطير والقصص حول من اكتشف كروية الأرض، وتختلف الروايات بناءً على الثقافات المختلفة والمفاهيم السائدة في تلك العصور. لكن من المهم فهم أن اكتشاف كروية الأرض لم يكن حدثًا منفردًا أو لحظة واحدة في التاريخ، بل هو عملية استغرق فيها الفكر البشري وقتًا طويلًا من التراكم العلمي والفلسفي.
المفاهيم المبكرة حول شكل الأرض
قبل أن يتخذ البشر فكرة كروية الأرض شكلًا علميًا واضحًا، كانت هناك عدة نظريات قديمة حول شكل الأرض. في العصور القديمة، كان معظم البشر يعتقدون أن الأرض مسطحة، وتدل بعض الحضارات القديمة على هذا المفهوم مثل المصريين القدماء والبابلين. كانت الأساطير القديمة في مختلف الحضارات تصوّر الأرض على أنها سطح مسطح محاط بالمياه أو محمولة على كائنات ضخمة مثل السلحفاة.
الإغريق وتطور الفكرة
كان الفلاسفة اليونانيون القدماء من أوائل المفكرين الذين حاولوا فهم شكل الأرض بناءً على الفلسفة والتجربة العلمية. يعود الفضل في طرح فكرة كروية الأرض إلى عدة شخصيات بارزة في الفلسفة اليونانية، ومن أبرزهم الفيلسوف بارمينيدس، الذي تحدث عن الأرض كمكان غير محدود في تفسيره للكون، لكن لم يقدم برهانًا علميًا مباشرًا على ذلك.
لكن الشخص الذي يعتبر “مكتشف كروية الأرض” في المفهوم العلمي الحديث هو الفيلسوف والرياضي فيثاغورس (حوالي 570–495 ق.م). ففي الوقت الذي كان فيه معظم الناس يعتقدون أن الأرض مسطحة، طرح فيثاغورس فكرة أن الأرض قد تكون كرة الشكل. هذه الفكرة كانت بداية لتطور العقل الفلسفي الذي يعتمد على الملاحظات والأدلة العلمية بدلاً من الأساطير.
إراستوثينس وقياس محيط الأرض
لا يمكن الحديث عن اكتشاف كروية الأرض دون ذكر العالم اليوناني إراستوثينس (276–194 ق.م)، الذي يعتبر أول من قام بقياس محيط الأرض بشكل دقيق باستخدام أسلوب علمي. كان إراستوثينس موظفًا في مكتبة الإسكندرية، وقد قام باستخدام فكرة الظلال لتحديد شكل الأرض.
في عام 240 ق.م، لاحظ إراستوثينس أن الشمس كانت تُسقط ظلالًا مختلفة في وقت الظهيرة في مدينتين مختلفتين في مصر، وهما الاسكندرية وسيوة. في مدينة سيوة، كانت الشمس مباشرة فوق رأس الشخص في الظهيرة، بينما في الاسكندرية كانت هناك ظلال صغيرة. ومن خلال قياس هذه الزوايا باستخدام علم الرياضيات، استطاع إراستوثينس حساب محيط الأرض بدقة تقارب المحيط الفعلي للأرض الذي يقارب 40,000 كم. وبذلك أثبت علميًا أن الأرض ليست مسطحة، بل هي كروية الشكل.
أفكار العصور الوسطى
مع بداية العصور الوسطى، وبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، أصبح التفكير العلمي في أوروبا محدودًا في بعض الأحيان بسبب الهيمنة الدينية. في ذلك الوقت، كان معظم الناس يعتقدون أن الأرض مسطحة، لكن هذا لم يمنع المفكرين المسلمين والعلماء في الشرق الأوسط من متابعة الأبحاث حول شكل الأرض.
العالم العربي البيروني (973–1048م) كان من أبرز العلماء في العصور الوسطى الذين دعموا فكرة كروية الأرض. في كتابه “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”، أثبت البيروني كروية الأرض باستخدام أساليب علمية متقدمة، وقدم حسابات دقيقة لمحيط الأرض وقارنه بالأرقام التي قدمها إراستوثينس.
العصور الحديثة وإثبات كروية الأرض
بينما كانت فكرة كروية الأرض قد أصبحت مقبولة لدى العلماء في العديد من الحضارات القديمة، لم يتم التأكيد على صحتها بشكل مطلق إلا مع ظهور الاكتشافات العلمية والتطورات الفلكية في العصور الحديثة. ومن أهم هذه الاكتشافات كان عمل كوبرنيكوس (1473–1543م) في القرن السادس عشر، الذي وضع نظرية مركزية الشمس التي أكدت على حركة الأرض حول الشمس.
في عام 1514، أعلن كوبرنيكوس عن أفكاره حول مركزية الشمس، حيث أشار إلى أن الأرض ليست مركز الكون، بل هي كوكب يدور حول الشمس. هذه النظرية كانت مهمة جدًا في التأكيد على فكرة كروية الأرض، حيث تبين من خلال الرياضيات والفلك أن الأرض لا يمكن أن تكون مسطحة إذا كانت تدور حول الشمس بشكل دوري.
وفي القرن السابع عشر، جاء غاليلو جاليلي (1564–1642م) ليؤكد على كروية الأرض بشكل أكبر باستخدام التلسكوب الفلكي. لقد اكتشف غاليليو العديد من الأشياء التي تدعم فكرة الكروية، مثل أقمار كوكب المشتري، وهي تدور حوله بنفس الطريقة التي تدور بها الأرض حول الشمس.
الكروية على مر العصور
في القرون الأخيرة، أدت الاكتشافات التي توصل إليها العلماء مثل إسحاق نيوتن (1642–1727م) في تفسير الجاذبية إلى تعزيز فكرة كروية الأرض. فقد أظهر نيوتن أن الجاذبية هي القوة التي تؤدي إلى انحناء سطح الأرض، وتمنع الأرض من أن تكون مسطحة. في القرن التاسع عشر، استخدم العلماء وسائل مثل السفن والطائرات للقيام بجولات حول الكرة الأرضية، مما أثبت أكثر وأكثر أن الأرض فعلاً كروية.
في العصر الحديث، أظهرت صور الأقمار الصناعية التي أُرسلت من الفضاء بوضوح كروية الأرض، ليصبح الأمر بلا أي شك أو جدال. اليوم، الكروية تُعتبر حقيقة علمية لا تحتاج إلى إثبات، وتُعتبر من أسس الفهم الفلكي والجغرافي.
الخاتمة
إن اكتشاف كروية الأرض لم يكن اكتشافًا لحظة واحدة أو عن طريق شخص واحد. بل كان سلسلة من الأبحاث والتجارب التي شارك فيها العديد من الفلاسفة والعلماء عبر التاريخ. بدءًا من الفلاسفة اليونانيين مثل فيثاغورس، مرورًا بالعلماء مثل إراستوثينس والبيروني، وصولًا إلى العلماء الفلكيين مثل كوبرنيكوس وغاليليو ونيوتن، تم تأكيد أن الأرض ليست مسطحة، بل هي كروية الشكل. هذا الاكتشاف كان له تأثير كبير على فهم الإنسان للكون، وأدى إلى تغيرات جذرية في طرق التفكير والعلم التي ما زلنا نستخدمها اليوم.
