كيفية توزيع النذر في الإسلام

توزيع النذر في الإسلام: الأحكام والضوابط الشرعية

يُعدّ النذر من العبادات التي أقرها الإسلام واعتنى بها، لما لها من دلالة على تعظيم العبد لربه، وسعيه للتقرب منه بعملٍ صالح يُلزِم به نفسه طواعيةً إذا تحقق له أمر يرجوه أو أراد صرف مكروه عنه. ولأن النذر عبادة، فقد وضع له الشرع ضوابط دقيقة من حيث وجوبه، وصيغته، وأركانه، ومصارفه، وكيفية الوفاء به وتوزيعه، لا سيما إذا كان متعلقاً بطعام أو مال يُنفق أو يُوزع.

في هذا المقال المطوّل، سيتم بيان أحكام توزيع النذر بأنواعه المختلفة، وتفصيل أقوال العلماء المعتبرين في فقه النذر، وفقًا للمذاهب الأربعة، وذكر أوجه الاتفاق والاختلاف، مع الاستدلال بالنصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، بما يضمن إثراء المحتوى الديني للقراء من جهة، ويعزز الفهم العميق لهذه الشعيرة من جهة أخرى.

تعريف النذر وأنواعه

النذر لغةً: الإلزام والالتزام. يقال: نذرت الشيء أي أوجبت على نفسي فعله.

النذر شرعًا: التزام طاعةٍ لله تعالى ليست واجبة بأصل الشرع، يلتزم بها العبد على نفسه، كأن يقول: “لله عليّ أن أصوم ثلاثة أيام إذا نجحت” أو “إن شفى الله مريضي فلله عليّ أن أتصدق بمبلغ من المال”.

أنواع النذر:

1. نذر الطاعة: وهو أن ينذر الشخص أن يؤدي عبادة معينة مثل الصلاة أو الصيام أو الصدقة أو الحج، وهذا هو النذر المشروع.

2. نذر اللجاج والغضب: كأن يقول: “إن فعلت كذا فلله عليّ صيام شهر” وهو يقصد به منع نفسه من فعل شيء معين.

3. نذر المعصية: مثل أن يقول: “لله عليّ أن أشرب الخمر”، وهذا نذر باطل لا يجوز الوفاء به.

4. نذر المباح: كأن ينذر أكل طعام معين أو الإقامة في مكان معين، وهذا ليس فيه قربة، ولا يلزم الوفاء به.

5. نذر التبرر المطلق: كأن يقول: “لله عليّ صيام شهر”، دون تعليق النذر على شرط، وهذا يجب الوفاء به.

حكم النذر في الإسلام

النذر ليس مستحباً في أصله، بل جاء التحذير من الإكثار منه في نصوص السنة النبوية، فقد قال النبي ﷺ: “إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرج به من البخيل”. ومع ذلك، إذا نذر المسلم طاعة لله تعالى، وجب عليه الوفاء بها، لقوله تعالى:

﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ [الإنسان: 7]،

وقوله سبحانه:

﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ [الحج: 29].

أركان النذر وشروطه

للنذر عدة أركان وشروط ينبغي تحققها، وهي:

1. الصيغة: بأن يلفظ الشخص بصيغة توجب النذر مثل “لله عليّ أن…” أو “إن حصل كذا فلله عليّ كذا”.

2. النية: يجب أن تكون النية صادقة في التقرب إلى الله بطاعة مشروعة.

3. المحل (المنذور): أن يكون عملاً طيبًا مشروعًا، لا يتضمن معصية.

4. القدرة: أن يكون الناذر قادرًا على الوفاء به عند وقوع المعلق عليه أو مباشرة بعد النذر.

توزيع النذر: الأحكام التفصيلية

يختلف حكم توزيع النذر بحسب نوعه، وبحسب نية الناذر إن كانت مخصصة لفئة معينة من الناس كالفقراء أو الأقارب أو لعامة المسلمين. ويجدر التمييز بين النذر المطلق، والنذر المعلق، ونذر التبرع.

أولًا: النذر بالطعام أو المال للفقراء

إذا نذر الإنسان أن يطعم أو يتصدق بشيء معين من المال أو الطعام، فإن جمهور العلماء ـ ومنهم المالكية والحنابلة والشافعية ـ يرون أن الواجب في هذه الحالة هو توزيع المنذور على الفقراء والمساكين فقط، ولا يجوز له الأكل منه أو توزيعه على الأغنياء.

وقد جاء في حديث النبي ﷺ أن الله لا يقبل إلا الطيب، والنذر طاعة وقربة فلا يصح صرفها لغير مستحقها شرعًا.

ويجب أن يتم توزيع هذا النذر كما يلي:

ثانيًا: النذر بالذبح

إذا نذر أن يذبح شاة أو بقرة أو غير ذلك، فينظر إلى نيته:

• إن نذر الذبح وتوزيعه على الفقراء، وجب عليه الذبح والتوزيع.

• إن نذر الذبح فقط دون تحديد التوزيع، فيستحب توزيع اللحم كله على الفقراء، ولكن يجوز أن يأكل منه هو وأهل بيته، ما لم يقيد النذر بمنع ذلك.

• إن نذر الذبح وتخصيصه لنفسه أو لأقاربه، فلا حرج في الأكل منه وفق نيته.

وقد نص العلماء على أن “ما نذره لله من الذبائح، فهو في حكم الصدقة، ولا يجوز الأكل منه إلا إن لم يحدد صرفه للفقراء.”

ثالثًا: النذر المالي (كالنقود)

عند نذر مبلغ من المال، يتعين صرفه وفق نية الناذر:

• إن نواه صدقة، وجب صرفه للفقراء.

• إن نواه للمسجد أو التعليم أو كفالة يتيم، وجب إنفاقه في تلك الجهة.

• لا يجوز العدول عن الجهة المنذورة إليها.

هل يجوز أكل الناذر من نذره؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على النحو الآتي:

• الحنفية والمالكية: لا يجوز للناذر أن يأكل من نذره إذا كان قد نواه صدقة للفقراء.

• الشافعية والحنابلة: إن نذر طعامًا وعيّن أنه للفقراء، لم يجز له الأكل منه. وإن لم يعين، جاز الأكل منه بنية التبرع العام.

وبالتالي، فإن الأصل هو التقييد بنيته، فإن نوى التوزيع على الفقراء، وجب الالتزام، وإن لم ينوِ جهة، جاز التوسع في التوزيع والأكل.

النذر في حق الغني والفقير

لا فرق في وجوب الوفاء بالنذر بين الغني والفقير، ما دام قد نذر وهو قادر على الوفاء به. ولكن يُستثنى من ذلك من نذر ما لا يطيق، كمن نذر مالاً وهو لا يملك قوت يومه، فحينئذ يُخير بين الكفارة وبين القضاء عند القدرة، أو يسقط عنه إن عجز.

وقد قال النبي ﷺ: “من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه” [رواه البخاري].

الكفارة عند عدم الوفاء بالنذر

من لم يستطع الوفاء بالنذر لعذر شرعي، أو أخطأ فأنفق المنذور في غير ما نواه، فإن عليه كفارة يمين، وهي:

1. إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله.

2. أو كسوتهم.

3. أو تحرير رقبة.

4. فإن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام.

وقد ورد ذلك في قوله تعالى:

﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ…﴾ [المائدة: 89].

شروط صحة توزيع النذر

1. الإخلاص: أن يقصد به وجه الله تعالى لا الرياء.

2. النية الصريحة: تحديد الجهة أو الإطلاق بما يناسب القربة.

3. العدل في التوزيع: إن نذر طعامًا أو مالًا، فليُوزَّع بعدالة، دون تحيّز أو مجاملة.

4. عدم التعدي على المنذور: فلا يجوز صرفه لغير الجهة التي نُذر لها.

5. تقديم الأحق فالأحق: الفقراء أولى من غيرهم، والمحتاجون أولى من الموسرين.

الخلاصة الشرعية

النذر عبادة جليلة، لكنها ثقيلة في التبعة، ولا ينبغي التسرع فيها دون وعي، لأن الوفاء بها واجب مؤكد، ولا يسقط إلا بعذر شرعي. وتوزيع النذر يجب أن يكون وفق ما نواه العبد عند النذر، فإن حدده للفقراء لم يجز له الأكل منه، وإن أطلق، فله أن يوزع جزءًا ويأكل جزءًا. أما إن خالف في التوزيع، فعليه الكفارة.

المصادر:

1. الإمام النووي، المجموع شرح المهذب، دار الفكر.

2. ابن قدامة، المغني في فقه الإمام أحمد، دار الهجرة.