انتشار مرض الزهري وأسبابه

انتشار مرض الزهري: الأسباب، الأنماط، العوامل، والوقاية

يُعد مرض الزهري (Syphilis) من الأمراض المنقولة جنسيًا الأكثر قدمًا وتأثيرًا في تاريخ الطب البشري. منذ ظهوره في أوروبا في أواخر القرن الخامس عشر، انتشر المرض بوتيرة مقلقة بين المجتمعات، وتحوّل من وباء قاتل إلى حالة صحية مزمنة يمكن الوقاية منها ومعالجتها في العصر الحديث. وعلى الرغم من التقدم الكبير في الطب، فإن الزهري ما زال يُمثل تهديدًا للصحة العامة، لا سيما في بعض المناطق ذات الأنظمة الصحية الضعيفة أو في الفئات السكانية التي تعاني من التهميش الاجتماعي.

هذا المقال يقدم دراسة شاملة حول انتشار مرض الزهري، من الزاوية الوبائية والبيولوجية والاجتماعية، مع تحليل العوامل التي أدت إلى تفشيه مجددًا في السنوات الأخيرة في بعض البلدان، وكيف يمكن مواجهته والتقليل من انتشاره بفعالية.

أولًا: لمحة تعريفية عن مرض الزهري

الزهري هو عدوى بكتيرية مزمنة تسببها بكتيريا تُسمى Treponema pallidum. ينتقل المرض أساسًا من خلال الاتصال الجنسي غير المحمي، ويُصنف ضمن فئة الأمراض المنقولة جنسيًا. في بعض الحالات، قد ينتقل من الأم إلى الجنين عبر المشيمة، مما يؤدي إلى ما يُعرف بالزهري الخلقي.

يتطور الزهري في أربع مراحل: أولية، ثانوية، كامنة، ومتأخرة. كل مرحلة تُظهر أعراضًا مختلفة، وقد تكون بعض المراحل بدون أعراض واضحة، مما يزيد من خطر انتقال المرض.

ثانيًا: أنماط انتشار مرض الزهري عالميًا

يشهد مرض الزهري انتشارًا متفاوتًا من منطقة إلى أخرى، وذلك بناءً على العوامل الجغرافية، والاقتصادية، والثقافية، ومستوى الوعي الصحي. وتشير بيانات منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى أن:

ثالثًا: العوامل المساهمة في انتشار مرض الزهري

1. السلوكيات الجنسية غير الآمنة

يُعد الجماع الجنسي دون استخدام وسائل وقاية (مثل الواقي الذكري) العامل الأول لانتقال الزهري. كما أن تعدد الشركاء الجنسيين، والممارسات الجنسية عالية الخطورة، تسهم في انتشار المرض بشكل متسارع.

2. نقص التوعية الصحية

في كثير من الدول، لا يُدرج التعليم الجنسي ضمن المناهج الدراسية أو يُطرح بشكل سطحي، مما يُنتج أجيالًا تجهل سُبل الوقاية من الأمراض المنقولة جنسيًا، وعلى رأسها الزهري.

3. وصمة العار الاجتماعية

العديد من الأفراد الذين يُصابون بالزهري يترددون في طلب العلاج أو الفحص بسبب الخوف من الوصمة المجتمعية، مما يُسهم في استمرار المرض وانتقاله إلى آخرين دون علم.

4. ضعف أنظمة الفحص الدوري

في الكثير من الدول، لا توجد برامج فحص روتيني فعالة للكشف المبكر عن الأمراض المنقولة جنسيًا. كما أن الزهري في مراحله المبكرة قد لا يظهر بأعراض واضحة، مما يُصعّب من اكتشافه.

5. الهجرة والسفر الدولي

في عالم يشهد تزايدًا في حركة السفر والهجرة، تنتقل الأمراض بسهولة عبر الحدود، لا سيما في حالات اللجوء أو التنقل غير النظامي، حيث تكون الرعاية الصحية ضعيفة أو معدومة.

رابعًا: إحصائيات حديثة حول انتشار الزهري

وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية ومراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC)، فإن الأرقام المتعلقة بالزهري تُظهر قلقًا متزايدًا:

• في عام 2023، تم تسجيل أكثر من 7 ملايين إصابة جديدة بالزهري عالميًا.

• نسبة الإصابة بين الرجال الذين يمارسون الجنس مع رجال (MSM) ارتفعت بنسبة 40% خلال السنوات الخمس الأخيرة.

• ارتفعت حالات الزهري الخُلقي بنسبة 203% في بعض ولايات أمريكا بين عامي 2017 و2022.

• في الدول العربية، لا تتوفر إحصائيات دقيقة، إلا أن تقارير غير رسمية تُشير إلى تزايد في الحالات بين المهاجرين واللاجئين.

خامسًا: الزهري الخُلقي وانتشاره

الزهري الخلقي يُمثل أحد أخطر أشكال المرض، حيث ينتقل من الأم الحامل إلى الجنين. وتكمن خطورته في أنه قد يؤدي إلى:

• الإجهاض أو ولادة جنين ميت

• تشوهات خلقية

• تلف في الدماغ أو الكبد

• وفاة الطفل بعد الولادة بأسابيع

ويُعد الفحص الروتيني للأمهات الحوامل من أهم طرق الوقاية من هذه النتائج الكارثية، إلا أن غياب هذه الممارسات في العديد من الدول النامية يُفاقم الوضع.

سادسًا: أنماط التفشي الحديثة وأسباب عودته

رغم تراجع مرض الزهري في منتصف القرن العشرين بفضل انتشار المضادات الحيوية، شهد المرض عودة قوية في العقود الأخيرة. الأسباب المحتملة لذلك تشمل:

• التراجع في استخدام الواقيات الذكرية مع تطور أدوية فيروس نقص المناعة البشرية (HIV).

• استسهال العلاقات الجنسية عبر التطبيقات الإلكترونية.

• عدم انتظام برامج الفحص الوطني.

• ظهور سلالات مقاومة للعلاج في بعض الحالات النادرة.

سابعًا: الإجراءات اللازمة لاحتواء انتشار الزهري

1. تعزيز التثقيف الصحي

يتعين على الدول إدخال برامج توعية جنسية شاملة، تبدأ من المراحل المدرسية، وتركز على الوقاية من الأمراض المنقولة جنسيًا.

2. تشجيع الفحص الطوعي والدوري

لابد من إتاحة الفحص المجاني والسري لجميع الفئات، لا سيما الفئات الأكثر عرضة للعدوى، مع التأكيد على أهمية الفحص قبل الزواج وخلال الحمل.

3. مكافحة الوصمة الاجتماعية

يجب اعتماد خطاب إعلامي وصحي يحارب الوصم المرتبط بالأمراض المنقولة جنسيًا، ويشجع المرضى على التوجه إلى مراكز العلاج دون خجل.

4. توفير العلاج المناسب

يظل البنسلين العلاج الأكثر فعالية للزهري، لكن يجب توفيره بشكل دائم، إلى جانب تدريب الطواقم الطبية على التعامل مع المرضى بسرية ومهنية.

5. الرصد الوبائي والمراقبة المستمرة

إنشاء قواعد بيانات دقيقة، وتنفيذ دراسات وبائية سنوية، يُعد أساسًا في فهم وتحليل انتشار المرض ووضع الخطط لمكافحته.

ثامنًا: الفرق بين انتشار الزهري وغيره من الأمراض المنقولة جنسيًا

رغم أن الزهري يُصنف ضمن نفس الفئة مع الإيدز والسيلان والكلاميديا، إلا أن له خصائص خاصة تميّزه من حيث:

هذا التمييز ضروري لفهم خطورة الزهري من جهة، وسهولة علاجه من جهة أخرى إذا تم تشخيصه في الوقت المناسب.

تاسعًا: مستقبل مرض الزهري وسبل السيطرة عليه

يبدو مستقبل الزهري مرتبطًا بقدرة الأنظمة الصحية حول العالم على تطوير استراتيجية شاملة تعتمد على:

• الوصول المجاني إلى الفحوص والعلاج

• التكامل بين وزارات الصحة والتعليم والإعلام

• الاستثمار في الأبحاث الطبية المتقدمة

• تعزيز التوعية بين الفئات الأكثر عرضة للإصابة

وتشير النماذج الوبائية إلى أنه بالإمكان خفض نسب الإصابة عالميًا إلى أقل من 1% خلال العقد المقبل، شريطة التعاون الدولي وتنفيذ الخطط الوقائية بشكل فعّال.

المصادر:

1. World Health Organization – Global Health Sector Strategy on Sexually Transmitted Infections, 2022–2030

2. Centers for Disease Control and Prevention (CDC) – Sexually Transmitted Disease Surveillance 2022