كهلان أبناؤهما صغار: بين واقعية المشهد الاجتماعي وإحراج الفرقاء

في المجتمعات العربية المعاصرة، تتفاوت الأعمار بين الأزواج بشكل ملحوظ، ولا سيما في بعض الحالات التي يظهر فيها الزوجان في عمر الكهولة بينما أبناؤهم لا يزالون في طور الطفولة. هذه الظاهرة التي يمكن تسميتها اصطلاحًا بـ”كهلان أبناؤهما صغار” ليست مجرد صدفة بيولوجية أو اختيار فردي منعزل، بل هي مشهد اجتماعي مركب تتشابك فيه عوامل اقتصادية، ثقافية، اجتماعية، وصحية. وهي في كثير من الأحيان تضع أصحابها — وكذلك من حولهم — في مواقف محرجة، أو على الأقل، لافتة للأنظار.

المعنى الدلالي والاجتماعي لعبارة “كهلان أبناؤهما صغار”

عندما يُقال “كهلان أبناؤهما صغار”، فإن هذا لا يعبّر فقط عن فارق زمني بين الجيلين، بل يشير أيضًا إلى إشكالية مجتمعية ذات أبعاد رمزية وسوسيولوجية. فالكهل، بحسب التصنيف العمري، هو من تجاوز الأربعين أو الخمسين من عمره، بينما من المعتاد أن يكون في هذا السن قد اقترب من إنهاء مهمته التربوية أو دخل في مرحلة استقرار أسري تكون فيها الأولوية لتأمين مستقبل الأبناء الكبار، لا تربية الصغار منهم. أما حين يصبح الأب في الستين وأطفاله لا يتجاوزون السابعة أو العاشرة من أعمارهم، فإن هذا يخلق نوعًا من التنافر بين التوقعات المجتمعية والدور الفعلي الذي يلعبه في أسرته.

دوافع هذا النموذج من الأسر

هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إلى أن يكون الزوجان في مرحلة الكهولة بينما أطفالهما ما يزالون في سن الحضانة أو الابتدائية. ومن أبرز هذه الأسباب:

1. الزواج المتأخر

في الكثير من المجتمعات، أصبحت ظاهرة الزواج المتأخر أمرًا شائعًا. سواء بسبب ظروف العمل، الدراسة، أو التقاليد الاجتماعية التي تجعل الشاب يظل يبحث عن الاستقرار المالي والاجتماعي قبل الإقدام على الزواج. ونتيجة لذلك، قد لا يتزوج بعض الأفراد إلا بعد سن الأربعين، ما يعني أن أولاده سيولدون في وقت يكون هو فيه أقرب إلى التقاعد منه إلى بداية الحياة الأسرية.

2. إعادة الزواج

الكثير من حالات الكهولة مع أطفال صغار تعود إلى زواج ثانٍ بعد طلاق أو وفاة الزوجة الأولى. وغالبًا ما يكون الطرف الآخر في الزواج الثاني أصغر سنًا، مما يخلق فرصة لإنجاب أطفال في سن متأخرة.

3. العقم وتأخر الإنجاب

هناك أيضًا حالات تتعلق بالصحة الإنجابية، حيث يعاني بعض الأزواج من مشاكل في الخصوبة، تؤخر الإنجاب سنوات عديدة حتى يأتي الطفل الأول في وقت متأخر. هذا الواقع الطبي يفرض نفسه على التكوين الزمني للعائلة.

4. الرغبة المستمرة في الإنجاب

في بعض الثقافات، توجد رغبة قوية لدى بعض الرجال في الاستمرار بالإنجاب حتى سن متقدمة، بدافع الحفاظ على اسم العائلة أو من منطلق الفخر الذكوري. وقد يكون لذلك أثر في وجود أطفال صغار لآباء كهلين.

الإحراج الاجتماعي الناتج عن هذه الظاهرة

يترتب على هذا النمط الأسري العديد من المواقف المحرجة، سواء للأبوين أو للأبناء أنفسهم أو للمجتمع المحيط بهم:

1. المظهر العام

قد يثير مشهد أب يحمل طفله الصغير في الشارع، وهو يبدو وكأنه في سن الجد، تعليقات أو نظرات من المارة. وغالبًا ما يُسأل هذا الأب: “هل هذا حفيدك؟”، ما يسبب حرجًا له ولعائلته. ويتكرر هذا الموقف كثيرًا في المدارس، حيث يُخطئ المعلمون أو الزملاء في اعتبار الأب أو الأم أجدادًا للطفل.

2. التحديات التربوية

الكهل، رغم ما يحمله من خبرة، قد لا يمتلك اللياقة أو الحيوية التي يتطلبها التعامل مع الأطفال الصغار، خاصة في المراحل الأولى من الطفولة التي تحتاج إلى طاقة بدنية ونفسية عالية. وقد يكون التفاوت الجيلي بينه وبين أبنائه كبيرًا إلى درجة تصعب معه عملية التواصل أو الفهم المتبادل.

3. الفجوة النفسية بين الأجيال

في ظل التقدم التقني والتغير الثقافي السريع، يجد الأب الكهل نفسه أمام أبناء ينتمون إلى زمن مختلف تمامًا، بكل ما فيه من أدوات تواصل، وتوجهات فكرية، وطموحات مستقبلية. ما يزيد من اتساع الهوة في المفاهيم ويضعف من فعالية الحوار التربوي بين الطرفين.

4. إحراج في محيط الأصدقاء أو الزملاء

كثيرًا ما يتجنب الكهول الذين لديهم أبناء صغار اصطحابهم إلى الاجتماعات الاجتماعية أو أماكن العمل، تفاديًا للتعليقات أو الأسئلة. وقد يشعرون بنوع من العزلة النفسية حين يجدون أنفسهم في محيط من أقرانهم الذين أصبحوا أجدادًا في حين لا يزالون هم يتعاملون مع حفاضات الأطفال ومصاريف المدارس التمهيدية.

الأبعاد النفسية لهذه الحالة

من الناحية النفسية، يواجه الكهول الذين يربّون أطفالًا صغارًا ضغوطًا مضاعفة. فهم مطالبون بتوفير الاحتياجات المادية، وإدارة الأسرة، ومواكبة متطلبات التربية الحديثة، وكل ذلك في وقت قد تبدأ فيه قدراتهم الجسدية والنفسية بالانخفاض.

كما أن الشعور بالذنب قد يتسلل إليهم، عندما يفكرون في مستقبل أبنائهم، واحتمالية ألا يتمكنوا من مرافقتهم في محطات حياتهم الأساسية، كالتخرج أو الزواج. هذا الشعور قد يتحول إلى قلق دائم، خاصة إذا لم يكن هناك دعم أسري قوي.

التحديات الاقتصادية والتعليمية

من الملاحظ أن تأخر الإنجاب أو الزواج غالبًا ما يرتبط بظروف اقتصادية غير مستقرة، أو بالعكس، بمرحلة الاستقرار المالي التي يراها البعض الوقت المثالي لتأسيس أسرة. لكن مهما كانت الخلفية، فإن وجود أطفال في مرحلة الاعتماد الكامل على الأهل في وقت يقترب فيه رب الأسرة من التقاعد، يُشكّل عبئًا ماليًا مستمرًا.

كما أن التعليم الحديث وما يصاحبه من مصاريف عالية، وضغوط نفسية يتعرض لها الأطفال، يفرض على الأبوين مواكبة التطورات التربوية والقدرة على الإشراف والمساعدة، وهو أمر قد يكون صعبًا في حال التقدم في السن أو الإصابة بالأمراض المزمنة.

انعكاسات على الطفل نفسه

الأطفال الذين يولدون لأبوين في سن الكهولة قد يواجهون بعض الإشكاليات النفسية والاجتماعية:

• المقارنة الدائمة بين آبائهم وأولياء أمور زملائهم.

• الخوف من فقدان الأب أو الأم في سن مبكرة بسبب عامل السن.

• صعوبة في مشاركة الأبوين أنشطة اللعب والرياضة.

• الإحساس بالوحدة أو الاختلاف ضمن البيئة المدرسية أو الاجتماعية.

التعامل المجتمعي مع الظاهرة

في بعض المجتمعات، يُنظر إلى هذه الظاهرة بنوع من الطرافة أو النقد، بينما في مجتمعات أخرى يتم تقبّلها بصفتها خيارًا شخصيًا لا يحق لأحد التدخل فيه. لكن تظل الحاجة ماسة إلى وجود خطاب اجتماعي أكثر وعيًا وتعاطفًا، يتفهم خصوصية هذه الحالة ويبتعد عن إطلاق الأحكام السريعة.

أبعاد صحية ونفسية للأم الكهلة

إن كانت هذه الظاهرة أكثر شيوعًا بين الرجال، إلا أنها موجودة أيضًا بين النساء اللواتي يخضن تجربة الإنجاب في الأربعين أو ما بعدها. وهنا تظهر مجموعة من التحديات الصحية الخطيرة، من ارتفاع ضغط الدم الحملي، إلى مخاطر سكري الحمل، وزيادة احتمالية الولادة القيصرية، فضلًا عن الإرهاق الجسدي المستمر بعد الولادة.

الأم الكهلة تحتاج إلى دعم صحي مستمر ومراقبة دقيقة، وإلى بنية نفسية صلبة تساعدها على تحمّل مشاق التربية في سن قد يكون فيه الجسد منهكًا بفعل الزمن.

الجدول التالي يلخّص التحديات والفرص في هذا النموذج الأسري:

الختام

في نهاية المطاف، يظل نموذج “كهلان أبناؤهما صغار” واحدًا من الصور المعاصرة التي تعكس التحولات العميقة في مجتمعاتنا. وعلى الرغم من التحديات النفسية والاجتماعية والصحية والاقتصادية المرتبطة به، فإنه لا يمكن اعتباره حالة شاذة أو سلبية بالضرورة. بل هو جزء من التنوع الإنساني الذي يستوجب الفهم والتعامل الواعي، بعيدًا عن الأحكام الجاهزة أو المواقف الحرجة التي غالبًا ما يكون منشؤها غياب الثقافة المجتمعية الراشدة.

المراجع:

1. الأمم المتحدة – تقرير السكان العالمي (2022).

2. مجلة الجمعية الأمريكية للطب النفسي – “تأثير تقدم عمر الأبوين على الصحة النفسية للأطفال” (2021).