عدم القدرة على التبول بعد الولادة: الأسباب، الأعراض، المضاعفات، وطرق العلاج

تمثل فترة ما بعد الولادة مرحلة حرجة من حياة المرأة، إذ يطرأ خلالها عدد كبير من التغيرات الجسدية والنفسية. ومن بين المشكلات الصحية التي قد تظهر في هذه المرحلة، تبرز “عدم القدرة على التبول بعد الولادة” كإحدى الحالات التي تُهمل أحياناً رغم خطورتها. تُعرف هذه الحالة طبياً باسم “احتباس البول بعد الولادة” (Postpartum Urinary Retention)، وهي حالة تحدث عندما تكون المرأة غير قادرة على التبول بشكل إرادي خلال فترة معينة بعد الولادة، أو تشعر بعدم تفريغ المثانة بشكل كامل رغم الرغبة في التبول. ويُعد الكشف المبكر عنها ومعالجتها أمراً أساسياً لتفادي المضاعفات الخطيرة المحتملة.

التعريف الطبي لاحتباس البول بعد الولادة

احتباس البول بعد الولادة هو اضطراب في الإفراغ الطبيعي للمثانة يحدث إما بصورة حادة (فجائية ومؤقتة) أو مزمنة (مستمرة ومتكررة). وتُصنّف الحالة إلى نوعين:

• احتباس بول حاد: عدم القدرة الكلية على التبول في غضون 6 إلى 12 ساعة بعد الولادة، وغالباً ما يحتاج إلى تدخل طبي فوري.

• احتباس بول جزئي أو مزمن: قدرة المرأة على التبول بشكل غير كافٍ مع بقاء كمية كبيرة من البول في المثانة بعد التبول، وغالباً ما يُكتشف بالفحص بالموجات فوق الصوتية.

الأسباب الشائعة لاحتباس البول بعد الولادة

تتعدد الأسباب المؤدية إلى هذه المشكلة، وتتشابك فيها العوامل الفسيولوجية، والميكانيكية، والدوائية. من أبرز هذه الأسباب:

1. التخدير الموضعي أو العام

يُعد التخدير النخاعي (spinal anesthesia) أو فوق الجافية (epidural anesthesia) من الأسباب الشائعة لحدوث ضعف في وظيفة المثانة، بسبب تأثيره المباشر على الأعصاب التي تتحكم في الجهاز البولي، مما يؤدي إلى تقليل الإحساس بامتلاء المثانة أو إضعاف الانقباض العضلي اللازم للتبول.

2. التمزقات المهبلية أو العجان

قد تؤدي التمزقات الناتجة عن الولادة أو الإجراءات الجراحية مثل بضع الفرج (episiotomy) إلى ألم شديد في منطقة العجان، ما يثني المرأة عن التبول خوفاً من الألم، وبالتالي يحدث احتباس بولي.

3. إصابة الأعصاب الحوضية

أثناء الولادة الطبيعية، خصوصاً إذا كانت مطوّلة أو استخدم فيها الشفط أو الملقط، يمكن أن يحدث تمدد أو ضغط على الأعصاب الحوضية (خاصة العصب الفرجي pudendal nerve)، مما يؤثر على الإحساس والسيطرة على عضلات المثانة.

4. امتلاء المثانة أثناء الولادة

في بعض الحالات، قد لا يتم تفريغ المثانة بشكل منتظم أثناء المخاض، مما يؤدي إلى تمددها بشكل مفرط، ويفقدها القدرة على الانقباض بشكل طبيعي بعد الولادة.

5. الخوف والتوتر النفسي

تؤثر العوامل النفسية مثل الخوف من الألم أو التوتر الناتج عن تجربة الولادة في قدرة المرأة على الاسترخاء، مما يعيق عملية التبول.

6. تأثير الأدوية

بعض الأدوية المستخدمة خلال أو بعد الولادة، مثل الأفيونات (opioids) لتسكين الألم أو مضادات الكولين، قد تثبط نشاط المثانة وتؤدي إلى احتباس البول.

الأعراض والعلامات المصاحبة

تختلف الأعراض حسب شدة الحالة ونوع الاحتباس البول، وتشمل:

• الشعور بعدم القدرة على التبول رغم امتلاء المثانة.

• ألم أو انزعاج في أسفل البطن.

• انتفاخ أو تورم في المنطقة السفلى من البطن.

• تقطّع البول أو خروجه ببطء.

• الحاجة المتكررة للتبول دون راحة.

• الشعور بعدم الإفراغ الكامل للمثانة.

• في الحالات الشديدة: خروج البول بشكل غير إرادي بسبب امتلاء المثانة الزائد (تسرّب البول overflow incontinence).

التشخيص الطبي

يبدأ تشخيص الحالة عبر التاريخ الطبي والولادي المفصّل، والفحص السريري، مع التركيز على الأعراض البولية. ويُعتمد على بعض الوسائل التشخيصية لتحديد مدى خطورة الحالة:

• الفحص بالموجات فوق الصوتية (Ultrasound): لتحديد كمية البول المتبقية في المثانة بعد التبول.

• قياس البول المتبقي بعد الإفراغ (Post-Void Residual): عبر قسطرة أو جهاز موجات فوق صوتية.

• تحاليل البول: لاستبعاد وجود عدوى بولية مصاحبة.

• فحوصات الأعصاب في الحالات المزمنة أو المتكررة.

المضاعفات المحتملة في حال إهمال العلاج

إهمال علاج احتباس البول بعد الولادة يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة تشمل:

• تمدد المثانة الدائم وفقدان مرونتها.

• عدوى الجهاز البولي السفلي أو العلوي.

• تكرار التهابات المثانة والكلى.

• تكون حصى بولية نتيجة ركود البول.

• تدهور في وظائف الكلى في الحالات المزمنة.

• سلس بول لاحق نتيجة ضعف عضلات المثانة.

• أثر نفسي سلبي على المرأة، كالشعور بالإحراج أو التوتر المستمر.

العلاج والخيارات المتاحة

تعتمد خطة العلاج على نوع وشدة الحالة، مع الأخذ بعين الاعتبار السبب الأساسي، وتتضمن الخيارات التالية:

1. القسطرة البولية

هي الإجراء الأولي لمعالجة الاحتباس الحاد، ويتم استخدام قسطرة لإفراغ المثانة وتخفيف الضغط. وتُزال القسطرة بعد التأكد من استعادة المثانة لوظيفتها.

2. التدريب على التبول

تشجيع المرأة على المحاولة للتبول في بيئة مريحة وخالية من التوتر، ووضعها في وضعية الجلوس الطبيعي يساعد على تحفيز المثانة.

3. كمادات دافئة

استخدام الكمادات الدافئة على منطقة العجان وأسفل البطن يمكن أن يحفز العضلات ويخفف التوتر، ما يسهل عملية التبول.

4. العلاج الفيزيائي للحوض

يُعد من أنجح الطرق في حالات الاحتباس المزمن، ويتضمن تمارين لتقوية عضلات قاع الحوض وتحفيز الأعصاب المحيطية.

5. تعديل الأدوية

في حال وجود أدوية تساهم في احتباس البول، قد يقوم الطبيب بتعديل الجرعات أو استبدالها بأدوية أخرى لا تؤثر على المثانة.

6. المتابعة النفسية

في الحالات التي يلعب فيها العامل النفسي دوراً، يمكن أن يساعد الدعم النفسي والعلاج السلوكي في تحسين الحالة.

الوقاية من احتباس البول بعد الولادة

رغم أنه لا يمكن تجنب كل حالات احتباس البول، إلا أن هناك مجموعة من التدابير الوقائية التي يمكن أن تقلل من خطر الإصابة:

• مراقبة المثانة أثناء المخاض وعدم تركها ممتلئة.

• تجنب تأخير التبول بعد الولادة.

• استخدام وسائل تخفيف الألم التي لا تؤثر سلباً على عضلات المثانة.

• التثقيف الصحي للأمهات حول أهمية العناية بالمثانة بعد الولادة.

• تدريب الممرضات على مراقبة كمية التبول في الساعات الأولى بعد الولادة.

• تقليل استخدام أدوات الولادة مثل الملقط والشفط إلا عند الضرورة.

الجدول التالي يوضح الفروق بين أنواع احتباس البول بعد الولادة:

تأثير احتباس البول على جودة حياة المرأة بعد الولادة

يتجاوز تأثير هذه الحالة الجانب الجسدي ليشمل الأبعاد النفسية والاجتماعية، إذ قد تشعر المرأة بالحرج أو القلق من عدم السيطرة على وظائفها الجسدية، ما يؤثر على علاقتها بمولودها وعائلتها. لذلك، يُعد التدخل المبكر والدعم المتكامل من الطاقم الطبي أمراً حاسماً في ضمان تعافٍ نفسي وجسدي متكامل.

الخلاصة

عدم القدرة على التبول بعد الولادة هو عرض شائع لكنه غالباً ما يُغفل أو يُستهان به. يمكن أن تتراوح شدته بين حالة مؤقتة تزول بسرعة إلى حالة مزمنة تتطلب تدخلاً علاجياً معقداً. تكمن خطورة هذه الحالة في مضاعفاتها الصامتة، التي قد لا تظهر مباشرة بعد الولادة. يشكّل التقييم المبكر، والوعي بين النساء والكوادر الطبية، والمتابعة المستمرة أهم الخطوات نحو الوقاية والعلاج. ويجب أن تكون هناك بروتوكولات طبية واضحة لمراقبة الوظيفة البولية لكل امرأة في الساعات والأيام الأولى بعد الولادة، لضمان تعافٍ صحي وآمن.

المراجع:

1. Yip SK, Sahota D, Pang MW, Chang A, Tam WH. Postpartum urinary retention. Acta Obstet Gynecol Scand. 1997;76(6):667-672.

2. Mulder FE, Schoones JW, Boogers MJ, et al. Incidence and management of urinary retention after vaginal delivery: A systematic review. Int Urogynecol J. 2020;31(7):1401–1415.