كارلوس غصن: من النجاح إلى الجدل

كارلوس غصن: رجل الأعمال اللبناني الذي شغل العالم

يُعدُّ كارلوس غصن واحدًا من أبرز رجال الأعمال في تاريخ صناعة السيارات العالمية. وُلد في بيروت، لبنان في 9 مارس 1954، وأصبح اسمه مرادفًا للنجاح والابتكار في القطاع الصناعي، لكن مسيرته المهنية لم تقتصر فقط على الإنجازات البارزة في مجال القيادة والتطوير داخل الشركات العملاقة مثل “نيسان” و”رينو”، بل ارتبطت أيضًا بعدد من الأزمات الكبرى التي هزت عالم الأعمال في السنوات الأخيرة، وجعلت اسمه يتداول في الأخبار على نحو غير تقليدي، بعد أن تحول من رمز للنجاح إلى محور للجدل.

نشأة كارلوس غصن

نشأ كارلوس غصن في بيروت خلال فترة مليئة بالتوترات السياسية والحروب الأهلية. ورغم الظروف الصعبة، استطاع أن يتفوق في دراسته، حيث أتم دراسته الثانوية في لبنان قبل أن يقرر الانتقال إلى فرنسا لمتابعة دراسته الجامعية. في عام 1978، حصل على درجة الماجستير في الهندسة من “École Polytechnique” في باريس، ثم تابع دراسته في “École des Mines”، حيث درس الهندسة وإدارة الأعمال. كانت هذه الدراسة بمثابة الأساس الذي ساعده لاحقًا على التميز في مجالات الأعمال والهندسة.

بداياته المهنية

بدأ كارلوس غصن حياته المهنية في شركة “ميشلان” الفرنسية التي كانت أحد أكبر الشركات العالمية في صناعة الإطارات. في هذه الشركة، أمضى غصن نحو 18 عامًا، حيث بدأ مسيرته في بداية التسعينيات. كان خلال هذه الفترة معروفًا بإبداعه وقدرته على الابتكار، وهو ما أكسبه سمعة طيبة داخل الشركة.

ولكن طموحه كان أكبر من مجرد العمل في صناعة الإطارات، ولهذا انتقل إلى قطاع السيارات، حيث انضم إلى شركة “رينو” الفرنسية في عام 1996. في البداية، تولى غصن مسؤولية تحسين العمليات في الشركة، وكان له دور كبير في عملية الإصلاح والهيكلة، حيث قاد “خطة الألف يوم” لإعادة هيكلة “رينو” وإنقاذها من الأزمات المالية التي كانت تواجهها. وقد أسهم هذا الإنجاز بشكل كبير في تعزيز مكانته بين كبار رجال الأعمال في العالم.

انضمامه إلى نيسان

في عام 1999، حدثت نقطة التحول الكبرى في حياة كارلوس غصن. في خطوة غير متوقعة، تم تعيينه من قبل شركة “رينو” ليشغل منصب المدير التنفيذي لشركة “نيسان” اليابانية. كانت نيسان، في ذلك الوقت، تمر بأزمة مالية خانقة، وواجهت تحديات كبيرة في البقاء في السوق. وقد كانت الشراكة بين “رينو” و”نيسان” بمثابة الحل الوحيد للخروج من هذه الأزمة.

وصل غصن إلى اليابان وهو يعلم جيدًا أن مهمته ستكون صعبة. كان أول ما قام به هو تقليص التكاليف، ومن ثم طرح استراتيجيات جديدة تهدف إلى تحسين جودة الإنتاج وتقليل الفاقد. وبفضل هذه الاستراتيجيات الجريئة، تمكن من إعادة شركة نيسان إلى المسار الصحيح خلال سنوات قليلة. تميزت فترة غصن في نيسان بإطلاق عدة موديلات ناجحة مثل “نيسان مورانو” و”نيسان 350Z”، اللتين ساعدتا في تحسين صورة الشركة وزيادة حصتها في السوق.

وقد أُطلق على غصن لقب “كارلوس ديزل” بسبب قدرته الفائقة على تقليص التكاليف وتحقيق الأرباح على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة. أصبح شخصية محورية في عالم صناعة السيارات، وكان يُنظر إليه على أنه المنقذ لشركات كبيرة في عالم السيارات.

الشراكة بين رينو ونيسان

في 2005، تم دمج “رينو” و”نيسان” في تحالف استراتيجي يهدف إلى تعزيز قوتهم في الأسواق العالمية. تولى غصن القيادة المشتركة لهذا التحالف، وقاد عملياته بكفاءة عالية. تحت قيادته، شهدت نيسان و”رينو” نموًا مستمرًا في الأسواق العالمية، واستطاع التحالف أن يحقق نجاحًا كبيرًا على مستوى استراتيجيات الإنتاج المشترك، وتقاسم التقنيات بين الشركتين.

هذا النمو الكبير أثبت أن غصن كان يتمتع بقدرة غير عادية على إدارة التحالفات بين الشركات الكبرى، حيث نجح في تنسيق العمليات بين نيسان ورينو، ما ساعد على تحقيق التوازن بين الابتكار والسيطرة على التكلفة. وتحت قيادته، تزايدت أرباح الشركتين بشكل لافت.

الأزمات والتهم القانونية

لكن في عام 2018، تحولت حياة كارلوس غصن بشكل درامي. في نوفمبر من نفس العام، تم اعتقاله في اليابان بتهمة التهرب الضريبي وتقديم تقارير مالية مزورة. كان غصن قد تم اتهامه بعدم الإبلاغ عن راتبه بالكامل على مدار عدة سنوات، مما اعتبرته السلطات اليابانية تهربًا من الضرائب.

الأزمة التي تعرض لها غصن كانت مدوية. وكان الاعتقال في اليابان حدثًا مفاجئًا نظرًا لأنه كان يتمتع بسمعة طيبة في صناعة السيارات، وكان يُنظر إليه على أنه من أكثر الشخصيات نجاحًا في العالم. تعرض غصن إلى محاكمة طويلة، حيث قضى شهورًا في السجون اليابانية تحت ظروف قاسية، ما أدى إلى تعميق الانقسامات بينه وبين السلطات اليابانية.

الهروب من اليابان

في أواخر 2019، فاجأ كارلوس غصن العالم مجددًا بهروبه من اليابان، حيث تمكن من مغادرة البلاد بطريقة غير قانونية عبر وسطاء إلى لبنان، الذي لا يوقع على معاهدة تسليم المطلوبين. الهروب من اليابان كانت خطوة مثيرة للجدل، أثارت العديد من التساؤلات حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه الضغوط السياسية والاقتصادية.

مرحلة ما بعد الهروب

منذ هروبه إلى لبنان، أصبح كارلوس غصن شخصية مثيرة للجدل في عالم الأعمال. بينما اعتبره البعض بطلًا نجا من مظالم النظام الياباني، رأى آخرون في هروبه بمثابة تصرف متهور لا يليق بشخصية عظيمة كان لها تأثير كبير على صناعة السيارات العالمية. لا تزال قضية غصن تشغل الكثير من وسائل الإعلام العالمية، وتدور حولها تساؤلات عديدة بشأن العدالة والتعامل مع قضايا مثل الفساد المالي في عالم الشركات الكبرى.

الإرث والإنجازات

على الرغم من التهم التي لاحقته، لا يمكن إنكار أن كارلوس غصن حقق إنجازات غير مسبوقة في عالم صناعة السيارات. بفضل استراتيجياته المبتكرة، قاد شركات مثل “رينو” و”نيسان” إلى النجاح العالمي. كما أن تطور صناعة السيارات الكهربائية، الذي يعد أحد أبرز التوجهات المستقبلية في صناعة السيارات، كان أيضًا من بين القضايا التي تناولها غصن في خطاباته وتوجهاته الإستراتيجية.

وبذلك، يظل كارلوس غصن واحدًا من أبرز الشخصيات التي أثرت في عالم الأعمال، سواء من حيث قيادته لعدد من أكبر الشركات العالمية أو من خلال الأزمات القانونية التي تسببت في جدل واسع.