لا تقلق لكونك لست بوسامة مهند: تأملات في قيمة الذات ومعايير الجمال السائدة

في عصرٍ تهيمن فيه الصورة وتتصدر فيه المظاهر الواجهة، بات الجمال معيارًا اجتماعيًا محوريًا، وارتبطت مفاهيم القبول والنجاح والجدارة غالبًا بالمظهر الخارجي. تتجلى هذه الظاهرة بقوة في تأثير الشخصيات العامة والمشاهير، وعلى رأسهم نجوم الدراما التركية الذين غزوا الشاشات العربية، ومن بينهم “مهند” الذي صار اسمه رديفًا للجاذبية والوسامة. وبقدر ما يبدو هذا الانجذاب مبررًا من وجهة نظر الفن البصري، إلا أن تبنّي تلك الصور المثالية كمعايير صارمة للجاذبية يشكل ضغطًا نفسيًا واجتماعيًا على الأفراد الذين لا يتطابقون مع هذه القوالب الجاهزة.

هذا المقال يقدم مقاربة فكرية ونفسية وثقافية لهذه الظاهرة، ويطرح تفكيكًا لمفاهيم الجمال التقليدية ويبيّن أهمية عدم القلق حيال عدم التشابه مع صور نمطية كوسامة “مهند” أو غيره، مؤكدًا أن قيمة الإنسان لا تختزل أبدًا في مظهره الخارجي.

الجمال كتصور اجتماعي وليس حقيقة موضوعية

من الضروري أولًا الإشارة إلى أن الجمال ليس قيمة مطلقة، بل هو نتاج ثقافي واجتماعي يتغير بتغير الزمن والمجتمع. فالمعايير التي نراها اليوم جميلة، لم تكن كذلك في القرون الماضية، وقد لا تظل كذلك في المستقبل. على سبيل المثال، كانت السمنة تُعتبر علامة جمال وثراء في عصور سابقة، بينما أصبحت النحافة اليوم مرادفًا للجاذبية وفقًا لإعلانات الأزياء المعاصرة. وفي بعض الثقافات الإفريقية والآسيوية، تختلف معايير الوسامة تمامًا عما هو رائج في الإعلام الغربي أو العربي.

إن وسامة “مهند”، أو غيره من رموز الجمال المصنّعة تلفزيونيًا، ليست سوى انعكاس لصورة مرسومة بحرفية من قبل شركات الإنتاج ومديري التسويق ومستشاري الصورة، وهي لا تعكس بالضرورة معايير عامة أو جوهرية للجاذبية أو الكفاءة أو النجاح في الحياة. ومن هذا المنظور، فإن السعي لتقليد هذه النماذج أو مقارنة الذات بها لا يخلو من التباس معرفي وضغط نفسي.

أثر المقارنة على تقدير الذات

المقارنة المستمرة بالآخرين – سواء في الجمال أو النجاح أو الثراء – تخلق حالة دائمة من القلق وعدم الرضى. وقد أثبتت دراسات في علم النفس الاجتماعي أن الأشخاص الذين يكثرون من مقارنة أنفسهم بالصور المثالية على وسائل التواصل الاجتماعي يعانون أكثر من القلق والاكتئاب وتدني احترام الذات. وعندما يُختزل معنى الوسامة في نموذج واحد كمهند، فإن من لا يشبهه قد يشعر بالدونية أو بعدم الجدارة، رغم أن هذه الاستنتاجات لا تستند إلى منطق موضوعي.

إن الإنسان كائن متعدد الأبعاد، ولا يمكن أن يُقوَّم بمظهره فقط. الشخصية، الذكاء، الخُلق، الطموح، الحضور، وروح الدعابة، كلها عناصر تساهم في بناء الكاريزما والجاذبية. وفي حالات كثيرة، لا تُحدد الجاذبية من خلال الملامح فقط، بل من خلال نظرة العين، نبرة الصوت، طريقة المشي، أو حتى أسلوب التفاعل مع الآخرين. هذه الجاذبية العميقة لا يمكن أن تُصنع في استوديوهات التصوير ولا تُقاس بعدد “الإعجابات” على إنستغرام.

الإعلام والهيمنة البصرية

من أهم أسباب ترسيخ صورة “الجمال المثالي” هو الإعلام، الذي يعتمد على الجمال الشكلي كوسيلة تسويقية. التلفاز، السينما، الإعلانات، وحتى تطبيقات التواصل الاجتماعي تسوّق لصورة “الوجه الجميل” والملامح الدقيقة كمدخل للتأثير والإقناع. هذه الهيمنة البصرية تُنتج ما يسميه علماء الاجتماع “استعمار الجسد”، أي تحويل الجسد إلى سلعة يجب أن تتوافق مع مواصفات السوق.

ووفقًا لهذه الرؤية، يصبح الجسد – لا الفكر أو المشاعر أو القيم – هو الأداة الأساسية لاكتساب المكانة. وهذا ما يعمّق شعور القلق لدى من لا يمتلكون “المقاييس المطلوبة”، رغم أن هذه المقاييس غالبًا ما تكون مصطنعة، ومبنية على التعديل الرقمي، وفلاتر الصور، والمونتاج المحترف.

الهوية الشخصية تتجاوز الجمال الخارجي

الإنسان لا يُختزل في ملامحه، بل يُعرّف عبر تاريخه، واختياراته، ونضاله، ومرونته في مواجهة الحياة. قد يولد الإنسان دون ملامح “فائقة الوسامة”، لكنّه قادر على اكتساب جاذبية خاصة من خلال تطوير نفسه، ثقافته، لياقته، وأسلوبه في التفاعل مع الآخرين. إن الكاريزما ليست جينية، بل مهارة مكتسبة ومبنية على الثقة بالنفس والقبول الداخلي.

والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ، فكم من قادة وعلماء ومفكرين لم يتمتعوا بمظهر فائق الجمال، ومع ذلك دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه، وكانوا محبوبين، ملهمين، ومؤثرين. كما أن التواضع والثقة والرقي الأخلاقي غالبًا ما تفوق في تأثيرها الجاذبية السطحية العابرة.

الجمال الأخلاقي: جاذبية القلب والعقل

من الضروري التمييز بين الجمال الظاهري والجمال الأخلاقي. فبينما يلفت الجمال الخارجي النظر، فإن الجمال الداخلي يأسر القلوب. الصدق، الوفاء، اللطف، القدرة على الاستماع، الإخلاص، والقدرة على الاحتواء، هي صفات لا تبهت مع الزمن، بل تتعمق وتزداد إشراقًا. ومن يمتلك هذه الصفات، حتى وإن لم يكن شبيهًا بـ”مهند”، فإنه يتمتع بجاذبية دائمة لا تزول مع تقدم السن أو تغير المظهر.

وفي العلاقات الإنسانية، لا تبقى الجاذبية الشكلية معيارًا دائمًا. فالدراسات النفسية تشير إلى أن الاستقرار العاطفي والرضى الزوجي لا يرتبطان غالبًا بالمظهر الخارجي، بل بالتفاهم والاحترام والدعم المتبادل. الجمال الأخلاقي هو ما يُبقي العلاقات حيّة، بينما يبهت الجمال الشكلي تدريجيًا مع مرور الوقت.

الجدول التالي يُلخّص مقارنة بين الجاذبية الشكلية والجاذبية الجوهرية:

التربية والثقة بالنفس منذ الطفولة

ينشأ الأفراد وهم يحملون تصورات غير واقعية عن الجمال بسبب ما يشاهدونه في وسائل الإعلام، مما يؤدي إلى ضعف الثقة بالنفس لدى الأطفال والمراهقين. لذلك، من الضروري أن تركز التربية الأسرية والمدرسية على تعزيز تقدير الذات عند الأبناء، وتعليمهم أن قيمتهم لا تتعلق بمظهرهم الخارجي بل بطموحاتهم وسلوكهم وتفاعلهم مع الحياة.

إن بناء شخصية متزنة تبدأ منذ الصغر عبر رسائل يومية تؤكد على أن الإنسان جميل بخصوصيته، وأن العالم لا يحتاج نسخًا مكررة من “مهند” أو غيره، بل يحتاج إلى أفراد أصيلين، صادقين، قادرين على التعبير عن أنفسهم دون قوالب جاهزة.

الجاذبية ليست حكرًا على أحد

في النهاية، لا أحد يحتكر الجاذبية أو يملك تفويضًا حصريًا للجمال. لكل شخص نكهته الخاصة، ومزيجه الفريد من الصفات التي تجعله محبوبًا ومميزًا. العالم ممتلئ بنماذج متنوعة للجمال، ولا يمكن أن يُختزل في شكل واحد أو وجه معين. وما قد يراه البعض عاديًا قد يكون في عين آخرين غاية في الجاذبية.

من لا يُشبه “مهند” قد يكون أكثر تأثيرًا، أكثر عمقًا، وأكثر إلهامًا. فالجمال الحقيقي يكمن في العيون التي ترى، لا في العيون التي تُرى فقط. وما يترك الأثر الدائم في القلوب ليس مجرد ملامح، بل روح تتجلى في الأفعال والمواقف والقيم.

المصادر:

1. Cash, T. F. (2004). Body Image: Past, Present, and Future. Body Image, 1(1), 1–5.

2. Etcoff, N. (1999). Survival of the Prettiest: The Science of Beauty. Anchor Books.