قوة التسامح وأثره العميق

عنوان المقال: قوة التسامح في بناء الإنسان

مقدمة

يُعد التسامح قيمة إنسانية عليا، ومبدأ أخلاقيًا يندرج ضمن أعمدة الاستقرار المجتمعي والنفسي، فقد أولته الديانات السماوية والفلسفات الأخلاقية مكانة رفيعة باعتباره ركيزة جوهرية في التعامل مع الذات والآخرين. والتسامح ليس ضعفًا ولا خنوعًا، بل هو سلوك يعكس القوة الحقيقية للنفس البشرية عندما ترتقي فوق الانفعالات، وتتمكن من تجاوز الأذى، وتختار الصفح بوعي لا عن جهل، وبقوة لا عن عجز.

التسامح في الأديان والفكر الإنساني

في الإسلام، يُعتبر التسامح من المبادئ الأساسية في العلاقات بين البشر، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور: 22]. كما جسّد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أروع صور التسامح مع أعدائه قبل أتباعه، ومن أبرزها موقفه في فتح مكة حينما قال لمن آذوه وأخرجوه: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.

وفي المسيحية، نجد أن المسيح عليه السلام دعا إلى التسامح كجوهر للوصايا الإلهية، حيث جاء في إنجيل متى: “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم”. أما في البوذية، فيُعد التسامح وسيلة من وسائل التحرر الداخلي، فهو يحرر الإنسان من الكراهية، ويقوده إلى الصفاء والسلام الداخلي.

الفكر الفلسفي كذلك لم يغفل التسامح، فقد تحدث فولتير عن حرية المعتقد والتسامح الديني، ودعا كانط إلى احترام الكرامة الإنسانية من خلال التسامح كأحد أشكال العقلانية الأخلاقية، بل إن غاندي جعل التسامح وسيلة للمقاومة السلمية والثورة ضد الظلم والاستعمار.

أقوال مأثورة في التسامح

إن سجل الحكمة الإنسانية زاخر بأقوال تلخّص جوهر التسامح وتبرز أثره العميق:

• “التسامح زينة الفضائل” – فولتير

• “الغفران هو أعظم أشكال الحب” – راينر ماريا ريلكه

• “من لا يستطيع أن يسامح، يهدم الجسر الذي يجب أن يعبره هو نفسه يومًا” – جورج هربرت

• “ليس هناك انتقام أعظم من التسامح” – ليو تولستوي

• “التسامح لا يعني النسيان، بل يعني القوة في الترفع” – نلسون مانديلا

• “من يعش في الماضي سيحرم نفسه من المستقبل؛ التسامح هو مفتاح التحرر” – ديباك شوبرا

• “التسامح هو العطر الذي تتركه الزهرة على القدم التي سحقتها” – مارك توين

• “لا يمكن أن يُبنى سلامٌ دائم من دون تسامح دائم” – كوفي عنان

• “المتسامحون ينامون بقلوب مرتاحة” – مثل صيني

• “الكراهية لا تنتهي بالكراهية، بل بالحب والتسامح” – بوذا

أنواع التسامح

يتخذ التسامح أشكالًا متعددة تختلف حسب السياقات والعلاقات:

أثر التسامح على الفرد

التسامح ليس فقط سلوكًا اجتماعيًا مطلوبًا، بل هو ضرورة نفسية وبيولوجية وعقلية. فالشخص المتسامح يعيش عمرًا أطول بصحة أفضل، إذ تقل مستويات التوتر والقلق لديه، وتنخفض احتمالية إصابته بأمراض القلب وضغط الدم، نظرًا لارتباط التسامح بإفراز هرمونات السعادة مثل الأوكسيتوسين والسيروتونين. كما أن التسامح يحرر الإنسان من عبء الحقد، ويمنحه قدرة أوسع على الإبداع والتفكير الإيجابي.

التسامح أيضًا يعزز من ثقة الإنسان بنفسه، فهو يشعر بالقوة لا بالضعف عند اتخاذ قرار العفو، ويمتلك وعيًا عاطفيًا متقدمًا يساعده على فهم ذاته وفهم دوافع الآخرين دون تحامل.

أثر التسامح في العلاقات الإنسانية

العلاقات القائمة على التسامح تتميز بالثبات والمرونة. فالتسامح يخلق بيئة يسودها الأمان العاطفي، ويمنع تراكم الغضب والكراهية. وفي العلاقات الزوجية، يعد التسامح من أهم أسس استمرارية الزواج، لأنه يخفف من حدة الخلافات، ويساعد على إعادة بناء الثقة بعد الانكسارات.

في الصداقات، يسهم التسامح في تجاوز الزلات ويُجنب العلاقات الانهيار بسبب مواقف عابرة. أما في بيئات العمل، فوجود ثقافة التسامح يزيد من إنتاجية الفريق ويقلل من النزاعات الداخلية، مما ينعكس بشكل مباشر على جودة الأداء.

التسامح كآلية لحل النزاعات

يُعتبر التسامح أداة فعالة في حل النزاعات، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي أو حتى الدولي. فمن خلال التسامح، يمكن تفكيك أسباب الصراع وبناء أرضية للحوار بدلاً من الانتقام. وقد اعتمدت لجان الحقيقة والمصالحة في عدة دول مثل جنوب أفريقيا ورواندا هذا المبدأ لمعالجة آثار الحروب الأهلية والمجازر، حيث طُلب من الجناة الاعتراف بأفعالهم، وطُلب من الضحايا منحهم الغفران ضمن رؤية متكاملة للشفاء المجتمعي.

عقبات تمنع التسامح

رغم ما يحمله التسامح من فضائل، إلا أن العديد من العوائق النفسية والاجتماعية تحول دون تحققه:

• الكبرياء: إذ يرى البعض في العفو تقليلاً من مكانتهم.

• التعلق بالألم: بعض الأشخاص يفضلون الاحتفاظ بالأذى كمبرر للغضب أو الحزن.

• غياب الوعي: التسامح يتطلب وعيًا ناضجًا بالنفس وبالآخرين.

• البيئة السلبية: المجتمع أو الأسرة التي تمجد الانتقام ولا تعزز ثقافة التسامح.

• ضعف الثقة بالنفس: الشخص الذي يشعر بالضعف غالبًا ما يجد صعوبة في مسامحة الآخرين.

آليات تعزيز التسامح

من أجل جعل التسامح سلوكًا يوميًا، ينبغي تطبيق استراتيجيات نفسية وتربوية وتواصلية، منها:

1. التربية على قبول الآخر منذ الصغر، من خلال المدارس والمناهج.

2. التأمل الذاتي المنتظم لفهم مشاعر الغضب والتعامل معها بوعي.

3. ممارسة التعاطف مع الآخرين من خلال محاولة رؤية الأمور من منظورهم.

4. استبدال الانتقام بالحوار كوسيلة لحل الخلافات.

5. الاحتكام إلى القيم العليا مثل الرحمة والعدل.

6. المطالعة حول قصص التسامح في التاريخ والواقع لإلهام النفس.

7. التخلص من الغرور الشخصي والانفتاح على ضعف الإنسان وقابليته للخطأ.

نماذج تاريخية مشهورة في التسامح

من أبرز الشخصيات التي جسدت التسامح نموذجًا في حياتها:

• الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: في فتح مكة، عفا عن قريش الذين آذوه ونفوه.

• نيلسون مانديلا: بعد خروجه من السجن، دعا إلى المصالحة الوطنية بدلًا من الانتقام.

• المهاتما غاندي: رغم العنف الذي تعرض له، استمر في دعوته إلى اللاعنف والتسامح.

• مارتن لوثر كينغ: كان رمزًا للمقاومة السلمية والدعوة إلى حقوق الإنسان عبر التسامح.

• الملكة إليزابيث الأولى: حاولت الحفاظ على التوازن الديني بين البروتستانت والكاثوليك في إنجلترا.

الخلاصة

التسامح ليس ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة نفسية واجتماعية، وأداة من أدوات التقدم البشري. هو نهر يتجدد كلما اختنقت الأرواح بالحقد، وجسر يُبنى حين تتداعى العلاقات. إن المجتمعات التي تحتضن التسامح تنعم بالاستقرار، والأفراد الذين يسلكونه يحققون السكينة والصفاء. ولذا، فإن تعزيز ثقافة التسامح يجب أن يكون أولوية في بناء الأفراد والمجتمعات.

المراجع

1. القران الكريم – سورة النور، الآية 22.

2. Mandela, Nelson. Long Walk to Freedom. Little, Brown and Company, 1994.