قوة التحكم بالانفعالات..رؤية علمية وإيمانية – الجزء الأول
التحكم بالانفعالات هو مهارة ضرورية في حياة الإنسان، تتداخل فيها الأبعاد النفسية والبدنية والاجتماعية. يعد هذا الموضوع من أبرز القضايا التي تتطلب اهتمامًا خاصًا، نظرًا لدوره الحاسم في الصحة النفسية والجسدية للفرد، وكذلك في تحسين علاقاته مع الآخرين. من خلال هذا المقال، سنتناول هذا الموضوع من منظورين رئيسيين: العلمي والإيماني، بحيث نعرض الأسس النفسية والبيولوجية التي تدعم قدرة الفرد على التحكم في انفعالاته، بالإضافة إلى الرؤية الإيمانية التي تقدم مسارًا روحيًا يمكن أن يساهم في تعزيز هذه المهارة.
1. مفهوم الانفعالات والتحكم فيها
الانفعال هو استجابة فطرية سريعة للمؤثرات البيئية، تنشأ نتيجة لتفاعل الفرد مع الأحداث التي يواجهها. يمكن أن تكون الانفعالات إيجابية أو سلبية، وتنعكس على سلوك الإنسان وتفكيره. من المعروف أن الانفعالات تتأثر بعدة عوامل، أبرزها العوامل الوراثية والتجارب الحياتية والبيئة المحيطة.
التحكم في الانفعالات لا يعني كبتها أو تجاهلها، بل هو القدرة على إدارة هذه المشاعر بطرق تسهم في تحسين جودة الحياة والتفاعل الاجتماعي، بحيث يكون الإنسان قادرًا على التصرف بحكمة بدلاً من أن ينساق وراء ردود فعل عاطفية قد تكون ضارة. هذا يشمل القدرة على تأخير الاستجابة العاطفية، فهم مصدر الانفعال، واستخدام استراتيجيات للتحكم فيه.
2. النظرة العلمية للتحكم بالانفعالات
من الناحية العلمية، يرتبط التحكم بالانفعالات بعدد من العمليات المعرفية والدماغية التي تتداخل لتؤثر على سلوك الإنسان. قد تساعد معرفة آلية عمل الدماغ في تفسير كيفية تأثير الانفعالات على تصرفات الإنسان وكيفية التحكم بها.
أ. النظام العصبي والانفعالات
الدماغ البشري يُعتبر المركز الرئيسي لمعالجة الانفعالات. عند مواجهة أي موقف مثير، تتفاعل الجهاز العصبي مع هذه المؤثرات عبر آلية تسمى “الاستجابة الفورية”، والتي تشمل تحفيز منطقة اللوزة الدماغية (Amygdala)، وهي المنطقة المسؤولة عن الاستجابة العاطفية. فعلى سبيل المثال، إذا تعرض الإنسان لموقف يثير الخوف، مثل رؤية حيوان مفترس، فإن الدماغ ينشط فورًا اللوزة الدماغية لتحفيز استجابة الهروب أو القتال.
لكن التحكم في الانفعالات يتطلب تدخل مناطق أخرى في الدماغ مثل القشرة الجبهية (Prefrontal Cortex)، التي تختص بالتخطيط واتخاذ القرارات. القشرة الجبهية تقوم بتقييم المواقف بشكل عقلاني وتساهم في التحكم في ردود الفعل العاطفية عن طريق تحديد ما إذا كانت الاستجابة العاطفية مبررة أم لا.
ب. استراتيجيات التحكم بالانفعالات في علم النفس
هناك العديد من الاستراتيجيات النفسية التي يعتمد عليها الفرد من أجل التحكم في انفعالاته. من أبرز هذه الاستراتيجيات:
-
الوعي الذاتي: تتطلب هذه الاستراتيجية من الشخص أن يكون واعيًا بمشاعره وانفعالاته في اللحظة نفسها، مما يتيح له التحكم في ردود فعله بشكل أفضل.
-
إعادة التفسير المعرفي (Cognitive Reappraisal): تتضمن هذه الاستراتيجية تغيير الشخص للطريقة التي ينظر بها إلى المواقف المثيرة للانفعال. على سبيل المثال، بدلاً من رؤية موقف مزعج كمؤشر على الفشل، يمكن تفسيره كفرصة للتعلم والتطور.
-
تقنيات الاسترخاء: مثل التنفس العميق أو التأمل، حيث تساعد هذه التقنيات على تقليل النشاط العصبي المرتبط بالانفعالات السلبية وتزيد من القدرة على اتخاذ القرارات العقلانية.
-
التفكير الإيجابي: يمكن أن يكون تبني نمط تفكير إيجابي أداة فعالة في الحد من الانفعالات السلبية، حيث يميل الأشخاص الذين يمتلكون تفكيرًا إيجابيًا إلى تفسير المواقف الصعبة بشكل أكثر تفاؤلاً وأقل تهديدًا.
ج. التأثير الجسدي للتحكم بالانفعالات
الأبحاث العلمية أظهرت أن القدرة على التحكم بالانفعالات تؤثر إيجابيًا على الصحة الجسدية. على سبيل المثال، الانفعالات السلبية مثل الغضب والقلق تؤدي إلى إفراز هرمونات التوتر مثل الكورتيزول، الذي إذا استمر لفترات طويلة قد يؤدي إلى مشكلات صحية مثل ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب. بالمقابل، فإن التحكم الفعّال في الانفعالات يمكن أن يساعد في تقليل مستويات هذه الهرمونات وتحسين وظائف الجهاز المناعي.
3. النظرة الإيمانية للتحكم بالانفعالات
من المنظور الإيماني، يُعتبر التحكم بالانفعالات جزءًا من الاستقامة النفسية التي يدعو إليها الدين. في الإسلام، على سبيل المثال، يُعتبر ضبط النفس والتزام الهدوء في مواجهة المواقف المزعجة من الصفات التي يتوجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها.
أ. التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم
يُعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة للمسلمين في كيفية التحكم بالانفعالات. في العديد من المواقف التي تعرض فيها للظلم أو الإساءة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر أعلى درجات الحلم والصبر. فقد جاء في الحديث الصحيح: “ليس الشديد بالصُرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” (رواه البخاري). هذا الحديث يعكس أهمية ضبط النفس، ويحث على أن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على التحكم في مشاعر الغضب والإحباط، وليس في الاستجابة الفورية والعنيفة.
ب. الصبر والحلم
من خلال التعاليم الإيمانية، يُشدد على قيمة الصبر والحلم كوسائل أساسية للتحكم في الانفعالات. الصبر لا يعني التسامح مع الأذى فحسب، بل هو أيضًا القدرة على تحمل الصعوبات والضغوطات النفسية دون الانفجار عاطفيًا. الحلم من ناحية أخرى هو الكبح الذاتي للغضب والانفعالات، وهو أمر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقدرة على اتخاذ القرارات الحكيمة في المواقف الصعبة.
ج. التوكل على الله
من المفاهيم الإيمانية التي تسهم في التحكم بالانفعالات هو التوكل على الله. عند التوكل على الله، يشعر المسلم بالاطمئنان، مما يساهم في تهدئة الانفعالات وتقليل الضغوط النفسية. عندما يعلم الإنسان أن الله سبحانه وتعالى هو المدبر لكل الأمور، فإنه يستطيع مواجهة المواقف الصعبة بثبات وأعصاب هادئة، دون الانجراف وراء العواطف المدمرة.
4. ختام الجزء الأول
يتضح أن التحكم بالانفعالات لا يرتكز فقط على الأبعاد النفسية والعقلية، بل يتداخل مع الأبعاد الروحية التي تساهم بشكل فعال في تعزيز قدرة الفرد على السيطرة على مشاعره. في الجزء الثاني من هذا المقال، سوف نتناول تطبيقات عملية للتحكم في الانفعالات من خلال الجمع بين المنظور العلمي والإيماني.
