قوة التحكم بالانفعالات

قوة التحكم بالانفعالات: رؤية علمية وإيمانية

إنّ التحكم بالانفعالات يُعدّ من أبرز علامات النضج العقلي والاتزان النفسي والسمو الروحي، وهو مفتاح رئيسي لتحقيق السلام الداخلي، وبناء علاقات إنسانية متينة، واتخاذ قرارات حكيمة في الحياة. تزاوج الرؤية العلمية مع الرؤية الإيمانية في تناول هذا الموضوع يكشف عن عمق التأثير الذي يمكن أن يحدثه ضبط الانفعالات في تطور الفرد واستقراره، سواء على الصعيد النفسي أو الروحي أو الاجتماعي.

تعريف الانفعالات وأنواعها

الانفعالات هي حالات نفسية شديدة الحدة، مؤقتة بطبيعتها، تنشأ كرد فعل على مثيرات خارجية أو داخلية. وهي تشمل طيفًا واسعًا من المشاعر مثل الغضب، الخوف، الحزن، الفرح، الاشمئزاز، والدهشة. وتنقسم عادة إلى نوعين رئيسيين:

• الانفعالات الإيجابية: مثل الحب، والفرح، والامتنان، وهي تحفز على السلوك البناء والتعاون.

• الانفعالات السلبية: كالغضب، والخوف، والغيرة، والحقد، وهي إذا لم يتم التحكم بها، قد تقود إلى اضطرابات نفسية وسلوك عدواني أو مدمر للذات وللآخرين.

الآليات العصبية والبيولوجية لضبط الانفعالات

وفقاً للأبحاث العصبية الحديثة، تلعب مجموعة من المناطق في الدماغ دوراً حيوياً في تنظيم الانفعالات، وأهمها:

أظهرت الدراسات أن الأفراد القادرين على استخدام القشرة الجبهية بفعالية أكبر، يكونون أكثر قدرة على كبح جماح الانفعالات، خاصة في المواقف التي تتطلب تريثًا واتزانًا.

الذكاء العاطفي ودوره في السيطرة على الانفعالات

الذكاء العاطفي (Emotional Intelligence) يُعرف بأنه القدرة على إدراك الانفعالات وفهمها وتنظيمها لدى الذات والآخرين. ويتضمن خمس قدرات أساسية:

1. الوعي الذاتي: التعرف على المشاعر فور نشوئها.

2. تنظيم الانفعالات: السيطرة على الاندفاعات وردود الفعل الغريزية.

3. التحفيز الذاتي: القدرة على توجيه الانفعالات نحو أهداف بناءة.

4. التعاطف: فهم مشاعر الآخرين والاستجابة لها.

5. المهارات الاجتماعية: بناء علاقات قائمة على التواصل الفعّال واحترام المشاعر.

وتشير دراسات حديثة إلى أن الذكاء العاطفي له ارتباط مباشر بالصحة النفسية، والنجاح المهني، والاستقرار الأسري.

المنظور الإيماني: الإحساس بالمسؤولية والتزكية الداخلية

من منظور إيماني، يُعتبر التحكم في الانفعالات جزءًا من تزكية النفس التي دعا إليها القرآن الكريم والسنة النبوية. وقد اعتبر الإسلام كظم الغيظ من صفات المتقين، كما في قوله تعالى:

“وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” [آل عمران: 134]

وقد تجلى ذلك في شخصية النبي محمد ﷺ الذي كان مثالاً في ضبط النفس، حيث لم يكن يغضب لنفسه، بل يغضب إذا انتُهكت حرمات الله فقط. وعلّم أصحابه فنون الصبر والتحكم في الانفعالات، فقال:

“ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” [رواه البخاري ومسلم]

وهذا التوجيه النبوي يربط بين قوة الإنسان الحقيقية وبين قدرته على ضبط انفعاله لا على الانتصار الجسدي.

آثار التحكم بالانفعالات على الصحة النفسية والجسدية

التحكم في الانفعالات لا يحافظ على توازن الفرد النفسي فحسب، بل يؤثر بشكل إيجابي في صحته الجسدية كذلك، ومن أبرز هذه التأثيرات:

• انخفاض مستوى هرمونات التوتر مثل الكورتيزول والأدرينالين.

• تقليل مخاطر أمراض القلب والأوعية الدموية.

• تحسين جودة النوم والتقليل من اضطرابات النوم الناتجة عن القلق أو الغضب.

• رفع كفاءة الجهاز المناعي مما يزيد من مقاومة الأمراض.

كما أن ضبط الانفعالات يساعد في تقليل السلوكيات الإدمانية، ويعزز من احترام الذات والثقة بالنفس.

استراتيجيات علمية فعّالة لضبط الانفعالات

من أجل تقوية القدرة على التحكم في الانفعالات، يُوصى بمجموعة من الاستراتيجيات المبنية على أسس علم النفس المعرفي والسلوكي:

1. تقنية التنفس العميق: تهدئة الجهاز العصبي اللاإرادي عند الشعور بالتوتر.

2. إعادة الهيكلة المعرفية: استبدال الأفكار السلبية بأفكار واقعية وإيجابية.

3. اليقظة الذهنية (Mindfulness): المراقبة الحيادية للمشاعر والأفكار دون إصدار أحكام.

4. التأمل: تهدئة العقل وتحقيق التركيز، مما يعزز الاتزان العاطفي.

5. ممارسة النشاط البدني: الرياضة وسيلة لتفريغ الشحنات الانفعالية بطريقة صحية.

6. الكتابة التعبيرية: وسيلة فعالة للتنفيس عن المشاعر وتحليل المواقف بشكل هادئ.

دور التربية والبيئة في تنمية القدرة على التحكم بالانفعالات

تلعب التربية دورًا محوريًا في تشكيل القدرة على التحكم في الانفعالات، حيث يتعلم الأطفال من خلال الملاحظة والتقليد كيفية التعامل مع المواقف المختلفة. وتُظهر الأبحاث أن البيئة التي تشجع على التعبير الصحي عن المشاعر وتعزز التعاطف تساهم في بناء شخصيات أكثر اتزانًا.

التنشئة المبنية على الحوار، والتفهم، والانضباط الإيجابي، تُثمر جيلاً قادرًا على كبح اندفاعاته، والتفكير قبل التصرف، واحترام مشاعر الآخرين. بالمقابل، فإن القسوة الزائدة أو الإهمال العاطفي يؤديان إلى ضعف في التنظيم الانفعالي وسلوكيات عدوانية أو انسحابية.

التكامل بين العلم والإيمان في تطوير الانضباط الانفعالي

إن الانفعالات جزء من طبيعة الإنسان، لكنها لا ينبغي أن تكون هي المتحكم في سلوكه وقراراته. وهنا يأتي التكامل بين الرؤية العلمية التي تقدم أدوات عملية للتنظيم الانفعالي، وبين الرؤية الإيمانية التي تضبط البوصلة القيمية للسلوك.

فالإيمان يعزز الشعور بالمسؤولية أمام الله، ويمنح الإنسان صبرًا وثباتًا، ويهذّب مشاعره من خلال الدعاء، والذكر، والصلاة، والصوم، وكلها وسائل تعبدية أثبتت الدراسات العلمية أثرها في تقليل التوتر والقلق، ورفع مستوى السكينة النفسية.

وقد بينت دراسة نشرتها “American Journal of Psychiatry” أن الأشخاص ذوي الالتزام الديني المنتظم لديهم معدلات أقل من الاكتئاب والقلق، ويملكون قدرة أكبر على التكيف مع الضغوط النفسية والاحتفاظ باتزانهم الانفعالي.

نتائج ضبط الانفعالات على المستوى الاجتماعي والمهني

الشخص الذي يتحكم في انفعالاته يُعدّ أكثر قدرة على بناء علاقات صحية ومستقرة. كما أنه يتميز بسمات قيادية، إذ يستطيع اتخاذ قرارات رشيدة تحت الضغط، ويحظى بثقة الآخرين وتقديرهم.

على المستوى المهني، تشير الأبحاث إلى أن القدرة على تنظيم الانفعالات تُعدّ من أهم مؤشرات النجاح الوظيفي، حيث ترتبط بـ:

• جودة القيادة

• العمل الجماعي الفعّال

• حل النزاعات بشكل حضاري

• الحفاظ على الحافزية الذاتية في مواجهة التحديات

الخلاصة

قوة التحكم بالانفعالات ليست موهبة فطرية بل مهارة تُكتسب وتُطور مع الممارسة والعلم والإيمان. وهي انعكاس لعمق النضج الإنساني والاتزان النفسي والسمو الأخلاقي. ويمثل دمج البُعد العلمي مع البُعد الإيماني في هذا السياق خارطة طريق شاملة تساعد الفرد على تحقيق السلام الداخلي والارتقاء بسلوكه إلى مستوى إنساني راقٍ.

المراجع:

• Goleman, Daniel. Emotional Intelligence. Bantam Books, 1995.

• Koenig, Harold G., et al. Handbook of Religion and Health. Oxford University Press, 2012.