قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن تبوك

قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك

تعد غزوة تبوك من أبرز الغزوات التي شهدها التاريخ الإسلامي، فقد كانت بمثابة اختبار عظيم لصدق الإيمان وتفاني المسلمين في سبيل الله. ومع ذلك، لم تكن غزوة تبوك مجرد معركة ضد الأعداء، بل كانت درسًا في الوفاء والإخلاص والصدق. في هذه الغزوة، كان هناك ثلاثة من الصحابة الذين تخلفوا عن المشاركة في المعركة رغم أنهم كانوا قادرين على الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم. هذه الحادثة استوقفت المؤرخين والعلماء لما فيها من معانٍ تربوية ودينية عميقة، وأصبحت من أهم الدروس التي ترويها كتب السيرة النبوية.

مقدمة عن غزوة تبوك

غزوة تبوك كانت آخر الغزوات الكبرى التي شارك فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت في السنة التاسعة من الهجرة. كان سبب الغزوة هو الاستعداد لملاقاة الجيش الروماني الذي كان يحشد قواته في الشام، وهو أكبر تهديد عسكري في ذلك الوقت. كانت الظروف الصعبة التي مر بها المسلمون في تلك الفترة، من حرارة شديدة وعوز في المال، بمثابة اختبار قوي لصدق إيمانهم وجاهزيتهم في الدفاع عن دينهم.

كان المسلمون في حاجة ماسة إلى الجنود والمؤن والمال للمشاركة في هذه الغزوة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا المسلمين للمشاركة في المعركة الجليلة. وفي هذا السياق، واجه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث صحابة لم يتمكنوا من المشاركة، وكانوا من رجال ذو مكانة في المجتمع المسلم. هؤلاء الصحابة الثلاثة هم: كعب بن مالك، مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية.

التخلف عن الغزوة

تأخر هؤلاء الصحابة الثلاثة عن الانضمام إلى غزوة تبوك لعدة أسباب، بعضها كان خارجًا عن إرادتهم وبعضها كان ناتجًا عن التقاعس والكسل. كان كعب بن مالك، وهو أحد هؤلاء الصحابة، معروفًا بشجاعته وكرمه. وقد ذكر في سيرته أنه كان مستعدًا للخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه حين نزل الأمر بالمسير إلى تبوك شعر بالكسل وبدأ يظن أنه يمكنه اللحاق بالركب في وقت لاحق، ولكنه أخطأ في تقدير الأمر. أما مرارة بن الربيع، فقد كان لديه أعذار مبررة، ولكن أحيانًا يمكن أن يؤخذ عليه التقاعس عن المشاركة، بينما هلال بن أمية لم يكن له عذر حقيقي في التخلف.

كان هؤلاء الصحابة يتوقعون أن يغفر الله لهم، ولا يخطر ببالهم أنهم سيخلفون عن هذه الغزوة الهامة. وقد دخلوا في حالة من التأجيل المستمر لحين وصلتهم الأخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على المسير وبدأت الغزوة بالفعل، مما جعلهم يشعرون بالخجل من تأخرهم.

النتائج التي ترتبت على التخلف

عندما عاد النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، بدأ يسأل عن الذين تخلفوا عن المعركة. كان الصحابة الذين تخلفوا، والذين كانوا قليلين جدًا مقارنة بعدد المسلمين الذين شاركوا في الغزوة، يدركون أن الله تعالى سيحاسبهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بعدم التحدث معهم في البداية حتى يوضح الله موقفهم.

لما عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، توجه إليه الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزوة. ابتدرهم كعب بن مالك، فبادرهم بالاعتراف بخطئه، وقال: “والله ما كنت أكثر قوة ولا أيسر حالًا مني حين تخلفت”. وكان في قلبه من الندم والاعتراف بخطيئته ما جعله يدرك تمامًا خطورة ما فعل.

أما مرارة بن الربيع فقد اعتذر، وشرح موقفه وحاول إظهار أن تخلفه كان بسبب ظروف خارجة عن إرادته. وكذلك فعل هلال بن أمية، إلا أن كل واحد منهم لم يكن يتوقع عقابًا شديدًا.

العقاب الإلهي والفرج

في هذه اللحظة كان اختبار عظيم لإيمان هؤلاء الصحابة، حيث أن الله تعالى كان قد قرر أن يختبر صبرهم وصدقهم في التوبة. استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم التحدث معهم، وكانت الحالة النفسية لهؤلاء الصحابة الثلاثة في أشد درجات الألم والحزن. فقد كانوا يعلمون أن التوبة لا تكون بالأقوال فقط، بل بالأفعال والصدق مع الله.

مرت أيام عصيبة على هؤلاء الصحابة الثلاثة، كانت الأيام مليئة بالانتظار والتوجس. لم ينجحوا في الحصول على أي دعم من الصحابة الآخرين الذين كانوا يظنون أن هؤلاء الثلاثة قد أخطأوا بتركهم للغزوة. ومع مرور الوقت، بدا وكأن الله قد أغلقت أمامهم كل الأبواب، حتى بلغ الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بتركهم وعدم التحدث معهم، وهو ما كان أشد أنواع العقاب لهم.

ولكن الله تعالى أراد أن يفرج عنهم، فبعد خمسين يومًا من عزلتهم جاء الوحي من السماء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقبول توبتهم. فقد نزلت الآية الكريمة: “وَعَلَىٰ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهِ هُوَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ” (التوبة: 118).

حين علم الصحابة الثلاثة بهذه الآية الكريمة، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلبوا منه قبول توبتهم، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة والفرح، وقبل توبتهم بصدق. وقد كان هذا الفصل من القصة درسًا عظيمًا في الصدق مع الله، وفي كيفية التوبة من الذنب.

الدروس المستفادة من القصة

تتضمن قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك العديد من الدروس والعبر التي لا تزال حية في النفوس إلى يومنا هذا:

1. الصدق مع الله: علمنا الصحابة الثلاثة كيف أن الصدق مع الله في الاعتراف بالخطأ والتوبة منه هو الطريق الصحيح للمغفرة. لا يكفي أن يتظاهر الإنسان بالإيمان، بل يجب أن يكون صدقه مع الله هو المعيار الأساسي في أفعاله.

2. التوبة الصادقة: نرى في القصة أن التوبة لا تكون مجرد كلمات، بل تكون سلوكًا يراعي الإنسان فيه مشاعر الندم والإخلاص لله. وقد علمنا الله تعالى أن يتوب علينا إذا كنا صادقين في توبتنا.

3. التعامل مع الآخرين بحكمة ورحمة: تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة الثلاثة بصدق ورحمة، فهو لم يعاملهم بالانتقام بل بالحكمة، وأعطاهم الفرصة للتوبة والعودة إلى الطريق المستقيم.

4. الاختبار في الشدائد: تبرز هذه القصة في أنها توضح كيف أن الله سبحانه وتعالى يختبر عباده في الأوقات الصعبة، وكيف أن الصبر والصدق في التعامل مع هذه الاختبارات هو الطريق للنجاح والفوز برضى الله.

إن غزوة تبوك، وقصة الثلاثة الذين تخلفوا عنها، تظل أحد أروع الأمثلة في السيرة النبوية التي تبين كيف أن الإيمان بالله والتوبة والصدق يمكن أن تفتح أبواب المغفرة والرحمة حتى بعد ارتكاب الأخطاء.