ظاهرة التسول: الأسباب والآثار والحلول

مقدمة عن ظاهرة التسول

تُعد ظاهرة التسول من القضايا الاجتماعية المعقدة التي تمس العديد من المجتمعات في مختلف أنحاء العالم، سواء في الدول النامية أو حتى في الدول المتقدمة. فالتسول ليس مجرد سلوك فردي ينحصر في طلب المال من المارة، بل هو نتاج لمجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تتشابك لتُفرز هذه الظاهرة التي تنعكس آثارها السلبية على الأفراد والمجتمع ككل. وتعتبر هذه الظاهرة مظهراً يعكس خللاً عميقاً في البنية الاجتماعية وفي منظومة القيم الاقتصادية والرعائية في الدولة.

يأخذ التسول أشكالاً متعددة منها التسول الظاهر والمباشر في الشوارع والأماكن العامة، والتسول المقنّع الذي يتجلى في أشكال مختلفة مثل بيع بعض السلع البسيطة أو تقديم خدمات هامشية مقابل الحصول على المال بطرق غير مباشرة. كما تتعدد فئات المتسولين بين الأطفال والنساء وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة. ويمتد تأثير هذه الظاهرة إلى تهديد الأمن المجتمعي وزعزعة الاستقرار الاقتصادي والنفسي للأفراد.

مفهوم التسول

التسول هو سلوك اجتماعي يتمثل في طلب المال أو الطعام أو أي نوع من المساعدات من الآخرين دون تقديم مقابل مادي أو خدمة فعلية. وغالباً ما يكون التسول ممارساً في الأماكن العامة مثل الشوارع، والأسواق، والمساجد، والمواصلات العامة. في بعض الأحيان يتم التسول بأساليب مقنعة أو عن طريق استدرار عطف الناس عبر إظهار العجز أو الحاجة أو استخدام الأطفال لجذب التعاطف.

يندرج التسول ضمن الظواهر الاجتماعية السلبية التي تعكس صورة من صور الفقر والبطالة والعجز عن تلبية الاحتياجات الأساسية للحياة. وعلى الرغم من وجود قوانين في معظم دول العالم تجرم التسول أو تنظمه ضمن إطار معين، إلا أن الظاهرة لا تزال منتشرة بدرجات متفاوتة.

أسباب انتشار ظاهرة التسول

تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى تفشي ظاهرة التسول في المجتمعات، وتكمن خطورة هذه الأسباب في كونها مترابطة ومتداخلة يصعب الفصل بينها، ومن أبرز هذه الأسباب ما يلي:

1. الفقر المدقع

يُعد الفقر أحد الأسباب الرئيسية للتسول، حيث يضطر الأفراد الذين يعانون من العوز الشديد إلى اللجوء إلى التسول كوسيلة للبقاء على قيد الحياة. وعندما تعجز الأسرة عن توفير الاحتياجات الأساسية مثل الطعام، والشراب، والمأوى، والتعليم، يصبح التسول هو الخيار الوحيد أمامهم.

2. البطالة

ارتفاع معدلات البطالة يؤدي إلى خلق شريحة كبيرة من الأشخاص غير القادرين على إيجاد عمل يؤمن لهم دخلاً منتظماً. هذه الفئة قد تلجأ إلى التسول كوسيلة لتأمين احتياجاتها اليومية في ظل انعدام الفرص الاقتصادية المتاحة.

3. التفكك الأسري

تلعب الأسرة دوراً محورياً في تربية الأبناء وحمايتهم من الانحرافات الاجتماعية، لكن في حال تعرض الأسرة للتفكك سواء بسبب الطلاق أو وفاة أحد الأبوين أو الإهمال، يجد الأطفال أنفسهم بلا دعم حقيقي، ما يدفعهم إلى الشارع ومن ثم إلى التسول.

4. ضعف التعليم

الأمية أو انخفاض مستوى التعليم يجعل الأفراد غير مؤهلين لدخول سوق العمل، الأمر الذي يدفعهم إلى البحث عن بدائل غير مشروعة أو غير كريمة مثل التسول للحصول على لقمة العيش.

5. استغلال الأطفال

يتم في كثير من الأحيان استغلال الأطفال في عمليات التسول من قبل شبكات إجرامية أو حتى من قبل ذويهم. هذا الاستغلال يعد من أخطر أشكال التسول حيث يتم إجبار الأطفال على ممارسة التسول بدلاً من التعليم أو اللعب، مما يؤدي إلى خلق أجيال مشوهة نفسياً واجتماعياً.

6. غياب الرقابة والتطبيق الصارم للقانون

في بعض الدول، قد يكون ضعف تطبيق القوانين المتعلقة بمكافحة التسول عاملاً مشجعاً على انتشاره. كما أن ضعف الرقابة الاجتماعية وعدم وجود مؤسسات فاعلة لرعاية الفقراء يسهم في تفاقم المشكلة.

7. العادات الاجتماعية الخاطئة

تشجع بعض العادات الاجتماعية على منح المال للمتسولين بدافع الرحمة أو كسب الثواب، ما يجعل التسول مهنة مربحة في نظر البعض. مثل هذه السلوكيات تسهم في استمرار الظاهرة بدلاً من القضاء عليها.

أنواع التسول

يمكن تصنيف التسول إلى عدة أنواع بحسب أسلوبه والجهة التي تمارسه، ومن أبرزها:

1. التسول الفردي

هو التسول الذي يقوم به شخص بمفرده دون وجود شبكة منظمة تدعمه. وغالباً ما يكون ناتجاً عن الحاجة الحقيقية أو الفقر المدقع.

2. التسول الجماعي المنظم

يُمارس من خلال شبكات إجرامية تتولى تنظيم المتسولين وتوزيعهم في أماكن محددة وتأخذ جزءاً من الأموال التي يجمعونها. هذا النوع من التسول يعد الأخطر لأنه يتداخل مع جرائم مثل الاتجار بالبشر واستغلال القاصرين.

3. التسول المقنع

هو التسول الذي يتخذ أشكالاً غير مباشرة مثل بيع سلع تافهة أو تقديم خدمات شكلية لا تبرر طلب المال، ويستهدف استدرار عطف الناس بطريقة خفية.

4. التسول الموسمي

يرتبط بمواسم معينة مثل شهر رمضان أو أيام الأعياد الدينية حيث تزداد نسبة تعاطف الناس وتكون فرصة المتسولين أكبر في تحصيل الأموال.

الآثار السلبية لظاهرة التسول

تشكل ظاهرة التسول تحديات خطيرة للمجتمع على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وتتمثل أبرز هذه الآثار فيما يلي:

1. تشويه صورة المجتمع

انتشار المتسولين في الأماكن العامة يعطي انطباعاً سلبياً عن المجتمع وقدرته على توفير احتياجات أفراده، ما يضر بصورة الدولة أمام الزوار والسياح.

2. زيادة الجريمة

في بعض الحالات يتحول التسول إلى وسيلة للتمويه على أنشطة إجرامية مثل السرقة، وترويج المخدرات، وجرائم النصب والاحتيال، خاصة عندما تكون هناك شبكات منظمة تدير هذه العمليات.

3. تكوين أجيال غير منتجة

عندما يعتاد الأطفال على التسول منذ الصغر بدلاً من التعليم والعمل، ينشأ جيل غير قادر على الإنتاج أو المساهمة في تنمية المجتمع.

4. إضعاف الشعور بالأمن

وجود أعداد كبيرة من المتسولين في الشوارع يعزز شعور عدم الأمان لدى المواطنين وقد يؤدي إلى زيادة التوتر الاجتماعي.

5. إرهاق الاقتصاد الوطني

يتسبب التسول في استنزاف موارد الدولة من خلال الحاجة المستمرة إلى إنشاء برامج دعم اجتماعي إضافية لمكافحة هذه الظاهرة، كما يضيع طاقات بشرية كان يمكن استثمارها في مجالات تنموية.

جهود مكافحة ظاهرة التسول

تسعى العديد من الدول والهيئات الاجتماعية إلى وضع استراتيجيات شاملة لمكافحة التسول والتقليل من انتشاره من خلال مجموعة من السياسات والإجراءات التي تشمل ما يلي:

1. تعزيز شبكات الحماية الاجتماعية

يعد إنشاء نظام دعم اجتماعي فعال يغطي الفقراء واليتامى وذوي الاحتياجات الخاصة أحد الحلول الجذرية للحد من ظاهرة التسول. يشمل ذلك توفير المساعدات المالية المباشرة، وتأمين المأوى، والرعاية الصحية المجانية.

2. توفير فرص عمل

مكافحة البطالة عبر توفير فرص عمل مناسبة وبرامج تدريب مهني يمكن أن تسهم بشكل كبير في تقليص أعداد المتسولين من فئة القادرين على العمل.

3. سن وتطبيق القوانين الرادعة

تطبيق قوانين صارمة ضد التسول خصوصاً التسول المنظم يمثل أحد الركائز المهمة لمكافحة هذه الظاهرة. ويجب أن تكون العقوبات رادعة مع التركيز على تفكيك الشبكات التي تستغل المتسولين.

4. نشر الوعي المجتمعي

يتطلب القضاء على التسول تغيير الثقافة المجتمعية التي تشجع على منح المال للمتسولين، واستبدال ذلك بتوجيه المساعدات إلى الجمعيات والمؤسسات الخيرية الرسمية التي تتولى توزيعها بشكل عادل ومنظم.

5. دعم التعليم الإلزامي

توسيع نطاق التعليم الإلزامي ومراقبة التسرب المدرسي من شأنه أن يقلل من تعرض الأطفال لخطر الانخراط في التسول.

6. إنشاء مؤسسات لرعاية المتسولين

تأسيس مراكز إيواء تقدم للمتسولين الخدمات الأساسية مثل التعليم، والتأهيل المهني، والرعاية النفسية يساعد على دمجهم في المجتمع وتمكينهم من العمل الشريف.

التسول في بعض الدول: مقارنة سريعة

يمكن توضيح بعض الفروقات في التعامل مع ظاهرة التسول في عدة دول من خلال الجدول التالي:

دور المؤسسات التعليمية والدينية في مواجهة التسول

تلعب المؤسسات التعليمية دوراً بالغ الأهمية في مكافحة ظاهرة التسول من خلال ترسيخ قيم العمل والكرامة لدى الأجيال الناشئة. فالتعليم الجيد والمستمر يوفر للأطفال والشباب مسارات حقيقية لتحقيق الذات والاعتماد على النفس بدلاً من التسول. كما أن التوعية بمخاطر التسول وأهمية مكافحة الفقر ضمن المناهج الدراسية تسهم في خلق جيل واعٍ قادر على رفض هذه الظاهرة.

أما المؤسسات الدينية، فلها دور محوري في نشر ثقافة التصدق عبر القنوات الرسمية الموثوقة بدلاً من إعطاء الأموال للمتسولين في الشوارع. فالدين الإسلامي على سبيل المثال يدعو إلى العطاء من خلال الزكاة والصدقات، لكنه في ذات الوقت يشجع على العمل ويحذر من الكسل والاعتماد على الآخرين بغير وجه حق. من هنا، يصبح توجيه الخطاب الديني نحو أهمية العمل والكسب الحلال أمراً جوهرياً في القضاء على التسول.

دور الإعلام في مكافحة ظاهرة التسول

يمكن للإعلام أن يكون سلاحاً فاعلاً في التصدي لظاهرة التسول من خلال:

• تسليط الضوء على خطورة التسول وآثاره على المجتمع.

• فضح الشبكات التي تستغل المتسولين خاصة الأطفال.

• نشر قصص نجاح لأشخاص تمكنوا من ترك التسول والاندماج في سوق العمل.

• التشجيع على دعم المؤسسات الخيرية الرسمية بدلاً من تقديم المال للمتسولين في الشوارع.

• تنظيم حملات توعية حول الطرق السليمة للتصدق والمساعدة.

الخلاصة

ظاهرة التسول ليست مجرد مشكلة فردية وإنما هي انعكاس لمنظومة اجتماعية واقتصادية تحتاج إلى مراجعة عميقة. القضاء على التسول يتطلب تضافر جهود الدولة والمجتمع والمؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية. لا يمكن معالجة هذه الظاهرة من خلال الحلول الأمنية وحدها بل يجب التصدي لجذورها مثل الفقر والبطالة والتفكك الأسري. كما أن دعم التعليم والتأهيل المهني يمثلان حجر الزاوية في بناء مجتمع خالٍ من هذه الظواهر التي تضر بأمنه واستقراره.

المصادر

• تقرير منظمة العمل الدولية حول ظاهرة التسول (ILO Report on Begging, 2018).

• وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل – تقارير مكافحة التسول في الدول العربية.