كلمات تدمر نفسية الأطفال

ملخص كتاب “كلمات نقتل بها أولادنا” لجوزيف وكارولين مسينجر – مقال موسّع

يمثل كتاب “كلمات نقتل بها أولادنا” للكاتبين الفرنسيين جوزيف وكارولين مسينجر واحداً من أهم الكتب التربوية والنفسية التي تناولت أثر اللغة والكلام في تشكيل شخصية الطفل، والتأثيرات الخفية – وربما الكارثية – التي تتركها الكلمات التي يتفوه بها الآباء دون وعي في نفوس أبنائهم. يتبنى هذا الكتاب منظوراً نفسياً وسلوكياً عميقاً، يستند إلى الخبرة الطويلة للمؤلفين في علم النفس والسلوك البشري، ليشرح كيف أن كلمات تبدو عابرة في ظاهرها قد تتحول إلى أوامر داخلية سامة تُشكّل الطريقة التي يرى بها الطفل نفسه والعالم من حوله.

يناقش الكتاب فكرة محورية مفادها أن الكلمات التي يقولها الأهل لأبنائهم منذ سن الطفولة الأولى ليست مجرد وسيلة للتواصل أو التربية، بل هي أدوات تكوّن صورة الطفل عن نفسه، وقد تبني ثقته أو تدمرها، تشجعه أو تعيقه، تفتح له أبواب الحياة أو تغلقها أمامه بإحكام.

مدخل إلى فلسفة الكتاب: الكلمات بوصفها سُموماً نفسية

في بداية الكتاب، يوضح المؤلفان أن المقصود بـ”القتل” في العنوان ليس القتل الجسدي، بل قتل الطموح، والفرح، والإبداع، والثقة بالنفس. فالطفل الذي يُسمع بشكل دائم عبارات سلبية مثل “أنت غبي”، أو “لن تنجح أبداً”، أو “لماذا لا تكون مثل أخيك؟”، يعيش حالة من التبرمج الداخلي السلبي الذي يؤدي به إلى تكرار تلك الرسائل في ذهنه، وتحويلها إلى معتقدات ذاتية راسخة. هذه الكلمات تتحول إلى صوت داخلي سام يُعيد إنتاج نفسه في مراحل لاحقة من الحياة على شكل إخفاقات، إحباطات، وانسحابات من المواقف الحياتية المختلفة.

يشير المؤلفان إلى أن العديد من العقد النفسية التي يعاني منها البالغون تعود جذورها إلى الرسائل اللفظية التي تلقوها في طفولتهم من البيئة الأسرية. فاللغة ليست محايدة؛ هي محمّلة بشحنات نفسية يمكنها أن تترك آثاراً عميقة قد تستمر مدى الحياة.

أمثلة من الكلمات السامة وآثارها النفسية

يعرض الكتاب جدولاً تحليلياً لعدد من الجمل الشائعة التي يستخدمها الأهل دون وعي، ويشرح الأثر النفسي المتوقع على الطفل، بالإضافة إلى ما يمكن أن تتحول إليه هذه الكلمات في وعيه الباطن. ومن بين هذه العبارات:

يتوقف الكاتبان عند خطورة هذه العبارات لأنها تترسخ لا شعورياً وتتحول إلى أوامر داخلية يصعب كسرها دون وعي ومجهود لاحق في مرحلة البلوغ أو حتى في سن النضج.

اللغة بوصفها أداة برمجة عصبية

يتقاطع محتوى الكتاب مع مفاهيم البرمجة اللغوية العصبية (NLP)، حيث يؤكد المؤلفان أن الكلمات التي يسمعها الطفل تشكّل خرائطه الذهنية الأولى عن نفسه والعالم. هذه الخرائط تترسخ في اللاوعي وتؤثر على سلوك الطفل في جميع نواحي الحياة، من الأداء الدراسي، إلى التفاعل الاجتماعي، بل وحتى في اختياراته المهنية والعاطفية المستقبلية.

فالطفل الذي يسمع بشكل دائم أنه “فوضوي”، يتبنى هذه الصفة جزءاً من هويته، ويصبح من الصعب عليه أن يؤمن بإمكانية تغيّر هذا السلوك. إنه يعيش أسيراً لصورة لغوية رُسمت له منذ الطفولة.

أثر الكلمات على مراحل النمو المختلفة

يشير الكاتبان إلى أن التأثير السلبي للكلمات يختلف باختلاف المراحل العمرية، إلا أن مرحلة الطفولة المبكرة (من سن 0 إلى 7 سنوات) تُعتبر الأكثر حساسية، حيث يكون الطفل في هذه المرحلة في قمة قابليته للتلقين والتأثر بما يسمعه من كلمات، خصوصاً من الوالدين أو من يحتل موقع السلطة والرعاية في حياته.

ففي هذه السن، يكون العقل في حالة امتصاص كامل، وكل ما يُقال له يُخزّن دون تمحيص أو تحليل. ولذلك، فإن تكرار الرسائل السلبية في هذا السن يغرسها عميقاً في البنية النفسية للطفل.

التراكم اللفظي والبرمجة اللاواعية

يؤكد الكتاب أن الخطر لا يكمن في جملة واحدة، بل في التكرار المستمر لها. فالكلمة السلبية التي تُقال كل يوم تُكوّن برمجة عصبية متكررة تُعيد صياغة شخصية الطفل، وتصنع لديه نظاماً من المعتقدات الخاطئة حول ذاته، العالم، والآخرين.

ويعرض المؤلفان مثالاً حياً لطفلة كانت تُوصف دائماً بأنها “ثقيلة الدم”، وقد كبرت وهي ترفض المشاركة في أي نشاط اجتماعي خوفاً من الرفض أو السخرية. هذا النموذج يتكرر كثيراً، حيث تتجلى الكلمات القديمة على هيئة سلوكيات مضطربة عند البالغين.

الحل المقترح: الوعي اللغوي وإعادة البرمجة

لا يكتفي الكتاب بتشخيص المشكلة، بل يقدّم حلولاً عملية تبدأ من وعي الأهل بأثر كلماتهم، والانتقال من اللغة السلبية إلى لغة مشجعة، محفّزة، ومتعاطفة. يدعو المؤلفان إلى ضرورة استخدام جمل مثل:

• “أنت قادر على التعلّم، فقط تحتاج إلى المحاولة”

• “أنا أحبك مهما فعلت”

• “كل شخص يُخطئ، المهم أن تتعلم من خطئك”

• “أنا فخور بك لأنك حاولت”

هذه العبارات الإيجابية تزرع لدى الطفل مفاهيم القوة الداخلية، والقبول الذاتي، وتحفّز لديه حب التعلّم والتجربة دون خوف من الفشل. كما أن الدعم العاطفي اللفظي يوفّر له الأمان النفسي الضروري لنمو صحي متوازن.

أهمية الاستماع والمرافقة العاطفية

ينبّه الكتاب إلى أن أحد أشكال القتل الصامت للأطفال هو تجاهلهم أو عدم الإصغاء لمشاعرهم. فالصمت السلبي، أو التعامل مع مشاعر الطفل كأنها “توافه”، يؤدي إلى تهميش عالمه الداخلي. ويؤكد الكاتبان أن الإصغاء الحقيقي هو أحد أشكال الحب والدعم التي تُعادل في أهميتها أي كلمة إيجابية تُقال له.

أثر الكلمات بين الأجيال

يعرض الكتاب أيضاً ملاحظة جوهرية حول “الموروث اللغوي”، حيث يُعيد الأهل تكرار نفس الكلمات التي سمعوها من آبائهم، وكأن هناك سلسلة من البرمجة السامة تنتقل من جيل إلى جيل ما لم يتم كسرها بالوعي وإعادة النظر في المفردات المستخدمة. يكشف هذا الجانب من الكتاب أن التربية لا تبدأ من الطفل فقط، بل من الوعي الذاتي للوالدين، والاشتغال على “شفاء” لغتهم الداخلية.

خاتمة تحليلية: تربية بالكلمة… أو التدمير بالكلمة

“كلمات نقتل بها أولادنا” ليس مجرد كتاب تربوي عابر، بل هو دعوة للتأمل العميق في تفاصيل اللغة اليومية التي نمارسها كآباء ومربين، وغالباً دون إدراك للأثر البعيد المدى لتلك الكلمات. يُعيد الكتاب الاعتبار للكلمة بوصفها أداة بناء أو هدم، ويوجّه سهام نقده الصادق إلى العادات اللغوية التي يبدو أنها بسيطة أو عفوية، لكنها تُعيد صياغة وعي الطفل في العمق.

يدعو جوزيف وكارولين مسينجر إلى تبنّي تربية قائمة على الحب الواعي، الكلمة المحسوبة، والإصغاء الحقيقي، لأن المستقبل النفسي والعاطفي لأبنائنا لا يُبنى فقط بالقرارات الكبرى، بل بتفاصيل اللغة اليومية التي نقولها لهم ونحن نعتقد أننا نربّي، بينما نحن، في الواقع، نبرمج ونشكّل ونحدد المصير.

المراجع

1. Joseph Messinger et Caroline Messinger – Ces mots qui tuent nos enfants, éditions Albin Michel.

2. Alice Miller – Le drame de l’enfant doué, éditions Aubier.