قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية
إن مسألة قراءة المأموم للفاتحة في الصلاة الجهرية من المسائل الفقهية التي دار حولها الجدل بين العلماء منذ العصور الأولى للإسلام، وقد تفرّعت عنها أقوال وآراء مختلفة بين الفقهاء من المذاهب الأربعة، مستندين إلى الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية وفعل الصحابة رضي الله عنهم. وهذا الاختلاف إن دل على شيء، فإنما يدل على عمق الفقه الإسلامي، وغنى التراث التشريعي الذي بني على مقاصد الشريعة وأصولها العامة.
هذا المقال يتناول المسألة تفصيلاً، مبيناً محل الخلاف، والأدلة المعتمدة، وآراء المذاهب الفقهية الكبرى، ومتى يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية، وهل تجب عليه القراءة أم تسقط بالاستماع إلى الإمام.
أولاً: تعريف الصلاة الجهرية
الصلاة الجهرية هي التي يجهر فيها الإمام بالقراءة في الركعتين الأوليين من الفريضة، وهي:
-
صلاة الفجر (ركعتان)
-
الركعتان الأوليان من صلاة المغرب (3 ركعات)
-
الركعتان الأوليان من صلاة العشاء (4 ركعات)
والجهر هنا معناه رفع الصوت بالقراءة بما يسمعه المأمومون، وهذا بخلاف الصلاة السرية التي يُسر فيها الإمام بالقراءة.
ثانياً: أهمية سورة الفاتحة في الصلاة
سورة الفاتحة تُعد ركنًا من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها، لما جاء في الحديث الصحيح:
“لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب” (رواه البخاري ومسلم)
وهذا الحديث مطلق يشمل الإمام والمنفرد والمأموم، إلا أن الخلاف جاء في: هل يشمل المأموم في الصلاة الجهرية أيضًا؟ أم أن قراءة الإمام تجزئ عن قراءة المأموم؟
ثالثاً: أقوال العلماء في حكم قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية
1. القول بعدم وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية
وهذا هو مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل، ورواية عند المالكية، واستندوا إلى أدلة منها:
-
قول الله تعالى: “وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون” (سورة الأعراف: 204)
-
حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
“من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة” (رواه ابن ماجه وأبو داود)
-
ولأن الغرض من القراءة هو إيصال القرآن إلى السامع، فإذا جهر الإمام وسمع المأموم، فقد حصل له المقصود.
2. القول بوجوب قراءة الفاتحة على المأموم مطلقًا
وهذا هو مذهب الشافعية، ورواية عند الحنابلة، وذهب إليه بعض السلف، واستندوا إلى:
-
حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
“لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب” (متفق عليه)
-
واعتبروا أن هذا الحديث عام يشمل كل مصلٍّ، إماماً كان أو مأموماً، في الجهرية أو السرية.
-
وأما حديث “قراءة الإمام قراءة للمأموم” فهو حديث ضعيف عند بعض المحدثين، أو على الأقل لا يرقى لمعارضة النص الصحيح الصريح في وجوب الفاتحة.
3. القول بالتفصيل
وهذا هو مذهب المالكية في المشهور والحنابلة في رواية أخرى، وذهبوا إلى التفصيل الآتي:
-
إن سمع المأموم قراءة الإمام، فينبغي له الإنصات.
-
وإن لم يسمع الإمام (لبُعد أو لضعف الصوت أو لوجود تشويش)، فعليه أن يقرأ الفاتحة.
رابعاً: متى يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية؟
من خلال النظر في مذاهب الفقهاء، نستطيع استخلاص الأوقات أو الحالات التي يمكن أن يقرأ فيها المأموم الفاتحة:
الحالة الأولى: في حالة عدم سماع قراءة الإمام
إذا كان المأموم لا يسمع قراءة الإمام بسبب البعد، أو لضعف الصوت، أو لوجود مانع، فإن أغلب الفقهاء – حتى من لا يوجبون القراءة في الجهرية – يرون أنه يقرأ الفاتحة لنفسه.
الحالة الثانية: في سكتات الإمام
بعض الأئمة يلتزمون بسُنّة السكتات بين التكبير وبين القراءة، وبين الفاتحة والسورة، وفي هذه الفترات يمكن للمأموم أن يقرأ الفاتحة فيها دون مقاطعة الإمام، وهو ما أفتى به الإمام أحمد في رواية، وبه قال إسحاق بن راهويه.
الحالة الثالثة: في الركعات التي لا يجهر فيها الإمام
حتى في الصلاة الجهرية، هناك ركعات لا يجهر فيها الإمام (الركعة الثالثة من المغرب، والثالثة والرابعة من العشاء)، فهنا يُستحب للمأموم بل يجب عليه قراءة الفاتحة كما في الصلاة السرية، وهذا محل اتفاق بين أكثر أهل العلم.
خامساً: أقوال الأئمة الأربعة باختصار
| المذهب الفقهي | حكم قراءة الفاتحة للمأموم في الجهرية |
|---|---|
| الحنفية | لا تجب، بل يُنصت للإمام |
| المالكية | لا تجب في المشهور، إلا إن لم يسمع الإمام |
| الشافعية | تجب في كل ركعة، سواء جهر الإمام أم لا |
| الحنابلة | على روايتين: إحداهما تجب مطلقاً، والثانية لا تجب إذا سمع الإمام |
سادساً: الجمع بين الأدلة والموقف الراجح
من العلماء من سعى للجمع بين الأدلة وعدم إلغاء بعضها، ورأوا أن القول بالتفصيل هو الأرجح والأقرب لمقاصد الشريعة:
-
إذا سمع المأموم قراءة الإمام، وجب عليه الإنصات.
-
وإذا لم يسمع الإمام، قرأ الفاتحة بنفسه.
-
وإن وجد فرصة للسكتة بين الآيات أو في أول الركعة، قرأ الفاتحة ما استطاع.
وهذا الرأي يجمع بين أحاديث الوجوب العام للفاتحة، وبين نصوص الأمر بالإنصات لقراءة الإمام، وهو مذهب كثير من الفقهاء المتأخرين.
سابعاً: التطبيق العملي للمأموم
في الواقع العملي، يمكن للمأموم أن يسير على الهدي التالي دون الوقوع في الإخلال بأركان الصلاة:
-
عند بدء الإمام للقراءة الجهرية، يُنصت له ولا يقرأ.
-
إذا وجد سكتة في بداية الركعة بعد التكبير، يستغلها ويقرأ الفاتحة سراً.
-
إذا لم يستطع، فليكتفِ بالإنصات، فذلك أبرأ لذمته في مذهب من قال بعدم الوجوب.
-
في الركعات التي لا يجهر فيها الإمام، يجب عليه أن يقرأ الفاتحة بنفسه.
ثامناً: قراءة الفاتحة خلف الإمام في المذاهب الأخرى
-
الظاهرية: أوجبوا قراءة الفاتحة على كل مصلٍّ دون استثناء، متمسكين بظاهر الحديث النبوي دون تفريق بين إمام أو مأموم.
-
زيدية والإمامية: منهم من ذهب إلى أن قراءة الفاتحة مستحبة لا واجبة للمأموم في الجهرية.
-
أهل الحديث: كان لهم ميول لمذهب الشافعية، مع تعزيز أهمية النص الصريح في “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب”.
تاسعاً: مسائل فقهية متعلقة
قراءة المأموم لغير الفاتحة
اتفق الفقهاء أن المأموم لا يقرأ شيئًا من القرآن سوى الفاتحة في الصلاة الجهرية، فلا يُشرع له قراءة سور بعد الفاتحة كما يفعل المنفرد أو الإمام، إلا في حالات الضرورة أو الجهل.
القراءة في السرية
في الصلاة السرية (الظهر والعصر)، يجب على المأموم قراءة الفاتحة باتفاق الفقهاء تقريبًا.
من نسي قراءة الفاتحة
-
إذا نسي المأموم قراءة الفاتحة في الجهرية، وكان من القائلين بوجوبها، فصلاته ناقصة، ويجب عليه السهو إن أمكن أو الإعادة.
-
أما من يرى عدم وجوبها في الجهرية، فلا شيء عليه.
عاشراً: الخلاصة
مسألة قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية من المسائل التي تعددت فيها الأقوال الفقهية، وكل قول مدعوم بأدلته ومبني على قواعد الاستنباط والتأصيل الشرعي. والراجح في هذه المسألة أن الإنصات للإمام عند الجهر أولى وأقرب للسنة، ما لم يكن هناك مانع من سماع القراءة، فيقرأ حينها المأموم الفاتحة بنفسه خروجاً من الخلاف، وتحقيقاً لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
المراجع:
-
ابن قدامة، المغني، دار هجر، القاهرة.
-
النووي، المجموع شرح المهذب، دار الفكر، بيروت.
