فاتح بلاد الصين: قتيبة بن مسلم الباهلي

مقدمة تاريخية

في التاريخ الإسلامي، يقف اسم قتيبة بن مسلم الباهلي كواحد من أعظم القادة العسكريين الذين حملوا راية الإسلام إلى أقصى الشرق. فهو القائد الذي يُنسب إليه فتح بلاد ما وراء النهر، واقترابه الكبير من حدود الصين، بل وتوغله فيها في فترة كانت فيها الإمبراطورية الصينية من أعظم حضارات العالم من حيث التنظيم، والجيش، والاقتصاد، والثقافة. يعتبر قتيبة بن مسلم الباهلي تجسيدًا لمفهوم القيادة العسكرية الإسلامية التي جمعت بين البأس العسكري والحكمة السياسية، وبين الشجاعة الميدانية والبصيرة الاستراتيجية.

خلفية شخصية

ولد قتيبة بن مسلم في عام 49 هـ (669م) في مدينة البصرة، لأسرة تنتمي إلى قبيلة باهلة العربية. نشأ قتيبة في بيئة مشبعة بروح الفروسية والجندية، وقد تلقى تعليمه في الفقه والحديث واللغة، إلى جانب تدريبه العسكري. تميز منذ صغره بسرعة البديهة والقدرة على القيادة، وهو ما لفت أنظار القادة الأمويين إليه، لا سيما الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي أصبح فيما بعد الداعم الأول له في مسيرته العسكرية والسياسية.

الظروف السياسية والعسكرية في زمن قتيبة

كان العصر الأموي يشهد توسعًا كبيرًا في رقعة الدولة الإسلامية، خاصة في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان ومن بعده الوليد بن عبد الملك. سعى الأمويون إلى استكمال السيطرة على أطراف الدولة الإسلامية وتثبيت الحكم في المناطق البعيدة عن مركز الخلافة، وكان من بين هذه المناطق بلاد ما وراء النهر التي تشمل أجزاءً من أوزبكستان الحالية وطاجيكستان وكازاخستان وأفغانستان الشرقية، بالإضافة إلى غرب الصين.

التحديات كانت كبيرة، حيث واجه المسلمون شعوبًا متحضرة ذات تاريخ عسكري طويل، وتحالفات قبلية معقدة، وقلاع محصنة، وبيئة جغرافية صعبة تتمثل في الأنهار والجبال والصحارى. لكن هذا لم يمنع الدولة الأموية من السعي للتوسع شرقًا، ووجدوا في قتيبة بن مسلم الرجل المناسب لهذه المهمة الصعبة.

تعيينه واليًا على خراسان

في سنة 85 هـ (704م)، عيَّن الحجاج بن يوسف الثقفي قتيبة بن مسلم واليًا على خراسان، وهي من أهم الأقاليم الإسلامية الواقعة شرق الدولة الأموية. لم يكن هذا التعيين تقليديًا، إذ كانت خراسان إقليمًا صعبًا، تتكرر فيه الثورات، ويشهد مقاومة محلية دائمة. غير أن الحجاج، الذي كان يتمتع بنظرة ثاقبة في اختيار رجاله، رأى في قتيبة القدرة على ضبط هذا الإقليم وفتحه لما وراءه من أراضٍ.

استراتيجية قتيبة في الفتح

اعتمد قتيبة بن مسلم على خطة متكاملة للفتح والسيطرة، تمثلت في:

1. تأمين الداخل: عمل أولًا على القضاء على العصيان في خراسان وتأمين المدن الكبرى مثل مرو ونيسابور وبلخ.

2. استمالة القبائل: استخدم أسلوب الدبلوماسية مع بعض القبائل في بلاد ما وراء النهر، فأعطاهم الأمان والعهود وأبقى بعض زعمائهم في الحكم تحت راية الدولة الإسلامية.

3. الحرب النفسية: كان قتيبة بارعًا في بث الرعب في نفوس خصومه من خلال الحصار الذكي واستعراض القوة، إلى جانب نشر أخبار انتصاراته في المناطق المجاورة.

4. البناء والتوطين: لم يكن قتيبة مجرد فاتح، بل قام ببناء الحصون وتوطين المسلمين في المدن المفتوحة، ما عزز من بقاء النفوذ الإسلامي في هذه المناطق.

الفتوحات الكبرى لقتيبة

فتح بخارى

بدأت الفتوحات الحقيقية لقتيبة في بلاد ما وراء النهر بفتح مدينة بخارى، إحدى أكبر وأهم مدن إقليم سُغد. كانت بخارى مركزًا تجاريًا وثقافيًا هامًا، وكانت تتمتع بتحصينات قوية وتحالفات قبلية تمنع وصول أي جيش إليها بسهولة. لكن قتيبة بن مسلم قاد حملة عسكرية ذكية، استخدم فيها الحصار المطبق وفرق الكر والفر، حتى تمكن من دخول المدينة وإخضاعها عام 90 هـ تقريبًا.

فتح سمرقند

لم تكن سمرقند مدينة عادية، بل كانت درة بلاد ما وراء النهر، وذات مكانة حضارية وعلمية وتجارية عالية. خاض قتيبة معركة ضارية لفتحها، لكنه اتبع سياسة مرنة بعد الفتح، فأمن أهلها وسمح لهم بممارسة شعائرهم مقابل الجزية، وترك لهم إدارتهم الذاتية تحت الإشراف الإسلامي. وكان لذلك أثر كبير في قبول الناس للدولة الإسلامية.

فتح كاشغر واقترابه من حدود الصين

في العام 96 هـ، بلغ قتيبة بن مسلم قمة إنجازاته العسكرية بوصوله إلى مدينة كاشغر على حدود الصين، وهو ما جعله أول قائد مسلم يضع قدمه في أرض تعتبر تابعة للإمبراطورية الصينية. وكان هذا الحدث ذا رمزية عالية، إذ أرسل القائد المسلم رسولًا إلى إمبراطور الصين يعرض عليه الإسلام أو الجزية أو الحرب، فاختار الإمبراطور دفع الجزية، وأرسل وفدًا إلى قتيبة لتأكيد خضوعه الرمزي للدولة الأموية.

جدول يوضح الفتوحات الرئيسية لقتيبة بن مسلم

إدارة الأقاليم المفتوحة

لم يكن نجاح قتيبة مقتصرًا على الفتح العسكري فقط، بل كان حريصًا على ترسيخ الحكم الإسلامي في المناطق التي يدخلها. استخدم مزيجًا من القوة واللين، واحترام عادات السكان المحليين، ونشر التعليم الإسلامي، وإنشاء المساجد، وبناء نظام إداري فعال، مما ساعد على استقرار الأوضاع وتحول العديد من السكان إلى الإسلام.

كما كان يعتمد على تولية القادة الأكفاء من العرب والموالي لإدارة المدن المفتوحة، وكان يشجع الجنود على الاستقرار والزواج من نساء تلك البلاد، ما أدى إلى نشوء جيل من المسلمين الجدد تربطهم أواصر قوية بالثقافة المحلية وبالدولة الإسلامية.

وفاته وأثره في التاريخ الإسلامي

توفي قتيبة بن مسلم الباهلي في سنة 96 هـ (715م) في خراسان، بعد خلاف نشب مع والي العراق الجديد يزيد بن المهلب. وقُتل في ظروف سياسية معقدة، لكن ذلك لم يقلل من حجم إنجازاته التي خلدها التاريخ.

يُعد قتيبة أحد أعظم القادة العسكريين في التاريخ الإسلامي، فهو القائد الذي فتح الطريق نحو أقصى الشرق، وزرع بذور الإسلام في أقاليم آسيا الوسطى والصين. وقد مهدت فتوحات قتيبة الطريق لتحولات حضارية عميقة في تلك المناطق، أسهمت في انتشار الإسلام واللغة العربية والثقافة الإسلامية لقرون لاحقة.

قتيبة في كتب التاريخ الإسلامي

تناول المؤرخون المسلمون شخصية قتيبة بإعجاب كبير، مثل الطبري في “تاريخ الأمم والملوك”، والبلاذري في “فتوح البلدان”، وابن الأثير في “الكامل في التاريخ”. وقد أجمع هؤلاء المؤرخون على أنه كان فارسًا مغوارًا، وقائدًا فذًا، وسياسيًا محنكًا، ورمزًا من رموز الفتح الإسلامي الكبير.

الخاتمة

إنّ سيرة قتيبة بن مسلم الباهلي تمثل أنموذجًا فريدًا للقائد المسلم الذي استطاع أن يحقق إنجازات ضخمة على المستويين العسكري والإداري. لقد جسّد روح الجهاد والعدالة والتسامح، وفتح آفاقًا جديدة للحضارة الإسلامية في الشرق، واضعًا بذلك اسمه في سجل القادة الذين غيّروا مجرى التاريخ.

المراجع

1. الطبري، تاريخ الأمم والملوك، دار الكتب العلمية، بيروت.

2. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت.