فيلم شيركرز: رحلة الذاكرة المفقودة

فيلم “شيركرز” (Shirkers): رحلة اكتشاف الماضي الضائع وتحدي الذاكرة السينمائية

يعد فيلم “شيركرز” (Shirkers) من الأفلام الوثائقية المميزة التي تتناول قصة حقيقية مليئة بالغموض والدراما، وهو من إخراج ساندى تان، المخرجة السينمائية من سنغافورة. يعرض الفيلم رحلة شخصية ومعقدة تمزج بين الحنين، البحث عن الإجابات، والإحباط من فقدان جزء من التاريخ الفني. تم عرض الفيلم في 26 أكتوبر 2018، ويعد من الأفلام التي لم تقتصر على عرض التجارب الشخصية فقط، بل ألهمت الكثير من المشاهدين بموضوعاتها العميقة والمثيرة للتفكير.

قصة الفيلم

في عام 1992، قامت ساندى تان مع مجموعة من أصدقائها بتصوير فيلم فني فريد من نوعه في شوارع سنغافورة. كانت تلك بداية فكرة فيلم “شيركرز” الذي كان من المفترض أن يكون مزيجاً من الإبداع والتجريب السينمائي. اختار الفريق السينمائي تصوير العمل بكاميرات 16 ملم، وهو اختيار يعكس الإحساس بالتجديد في ذلك الوقت، حيث كان هذا النوع من التصوير يتطلب مهارات تقنية وخبرة سينمائية كبيرة.

ولكن، وبينما كان هذا الفيلم يُعد خطوة كبيرة نحو التعبير الفني المستقل، حدث ما لم يكن في الحسبان: اختفت جميع اللقطات المسجلة، ما ألقى بظلاله على حلم الفريق وصورته السينمائية. الفيلم، الذي كان من المفترض أن يكون تحفة فنية فريدة، أصبح مجهولًا، وعادت ساندى تان إلى نقطة الصفر.

الرحلة البحثية وفتح أبواب الماضي

يأخذ فيلم “شيركرز” المشاهدين في رحلة مثيرة من خلال الذكريات والبحث عن الحقيقة. ساندى، التي كانت تتطلع إلى استكشاف سبب اختفاء لقطات الفيلم الأصلية، بدأت في رحلة طويلة لكشف من كان وراء تلك الحادثة الغريبة. الفيلم لا يقتصر فقط على البحث عن لقطات مفقودة، بل يتعمق أيضًا في آثار تلك التجربة على حياة ساندى وتطلعاتها المهنية.

تقوم ساندى في الفيلم بمراجعة الذكريات المفقودة والتواصل مع أصدقائها الذين كانوا جزءًا من الفريق السينمائي. تكتشف في هذا المسار أن الأشخاص الذين كانوا جزءًا من التجربة قد تغيروا، وأن الأحداث التي شكلت تلك اللحظة الفارقة في حياتهم قد أخذت طابعًا مختلفًا مع مرور الزمن. بينما تواجه ساندى التحديات في محاولاتها لفهم ما حدث لتلك اللقطات الضائعة، يعكس الفيلم كيف يمكن للذكريات أن تتغير، وكيف يمكن للقصص التي لم تكتمل أن تبقى عالقة في الأذهان.

الأسلوب السينمائي والمعالجة الفنية

تتميز معالجة “شيركرز” الفنية بأنها تجمع بين الوثائقي والتجريبي، ما يعكس شخصيتها كمخرجة تسعى لتوثيق تجربتها الشخصية من منظور فني مبتكر. تم استخدام لقطات أرشيفية من الفيلم المفقود، بالإضافة إلى مجموعة من الصور والمقاطع التي تُظهر الحياة في سنغافورة في التسعينيات. هذه اللقطات لم تكن مجرد أدوات توثيقية، بل كانت وسيلة لإعادة الحياة إلى الماضي، وإعطاء المشاهدين إحساسًا مباشرًا بالزمن والمكان الذي تم تصوير الفيلم فيه.

الطابع الشخصي لفيلم “شيركرز” يظهر بوضوح في الأسلوب السردي، حيث تتداخل عناصر من المذكرات الشخصية والتوثيق السينمائي، مما يعزز التجربة العاطفية للفيلم. ساندى لا تكتفي بتوثيق الأحداث، بل تضيف لمستها الخاصة من خلال التأمل في تجاربها وحياتها كمخرجة في عالم سينمائي يتغير بسرعة.

التحليل النفسي والثقافي

فيلم “شيركرز” يحمل في طياته رسائل أعمق تتعلق بالهوية، الذات، والذاكرة الثقافية. في عالم يتغير باستمرار، يجد الفيلم نفسه في مواجهة مع فكرة ما إذا كانت الذاكرة يمكن أن تكون موثوقة. من خلال تناول تجربتها الشخصية، تتساءل ساندى عن معنى أن يكون لديك “ماضي” لا يمكنك الوصول إليه، وعن كيف يمكن للثقافة السينمائية أن تكون مفقودة أو مغيبة. تطرح القصة تساؤلات عن تأثيرات فقدان العمل الفني على الهوية الشخصية والمهنية، وعن العلاقات المعقدة التي تنشأ بين المبدعين وأعمالهم.

الهوية السينمائية والنسوية

من جانب آخر، يعتبر فيلم “شيركرز” أيضًا تعليقًا على قضايا الهوية النسائية في صناعة السينما. في فترة التسعينيات، كانت صناعة السينما تهيمن عليها شخصيات ذكورية، وكان من الصعب على المخرجات الشابات تحقيق التقدير في مثل هذه البيئة. ساندى، التي كانت شابة عندما بدأت العمل على الفيلم الأصلي، أصبحت مع مرور الزمن إحدى الأصوات النسوية المهمة في صناعة السينما. فيلمها يتحدى القيود التقليدية ويعبر عن تجربة نسائية فريدة.

كما أن الفيلم يسلط الضوء على القضايا التي تواجه السينمائيين في الأماكن التي تشهد تطورًا ثقافيًا سريعًا، مثل سنغافورة، حيث كان التصوير السينمائي المستقل في ذلك الوقت موجهًا بالعديد من القيود، سواء كانت ثقافية أو اقتصادية.

الختام والتأثير على السينما الوثائقية

على الرغم من أن فيلم “شيركرز” يروي قصة شخصية ومؤلمة، إلا أنه يعكس أيضًا القوة التحولية التي يمكن أن تمتلكها السينما الوثائقية في تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والثقافية. “شيركرز” ليس فقط فيلمًا عن فقدان، بل هو أيضًا فيلم عن الانتصار على الزمن، والذاكرة، والصوت المفقود. من خلال البحث المستمر عن اللقطات المفقودة، يعيد الفيلم تشكيل هويتها السينمائية ويجعل من الضياع قصة تستحق أن تُروى.

يعد “شيركرز” مثالاً قويًا على كيف يمكن للفيلم الوثائقي أن يربط بين الشخصي والعالمي، وبين التاريخ والذاكرة، ليكون بمثابة شهادة على الماضي وعلى التحديات التي يواجهها المبدعون في سعيهم لإيصال صوتهم.