6 فوائد يكتسبها الطفل من تعلّم عادة القراءة

تُعَدّ القراءة من أهم العادات التي يمكن للإنسان أن يكتسبها منذ نعومة أظفاره، فهي حجر الأساس في بناء المعرفة وتنمية القدرات العقلية واللغوية والوجدانية. ولعلّ ما يميّز القراءة هو أنها لا تقتصر على كونها وسيلة تعليمية، بل تمتد لتكون وسيلة ترفيه، وأداة لفهم الذات والعالم، ومفتاحًا للنمو الفكري والاجتماعي. وعندما تُغرس عادة القراءة في الطفل منذ الصغر، فإنّ ذلك يشكّل نقطة تحوّل نوعية في مسيرة نموّه وتطوّره في مختلف مجالات الحياة.

تُجمع الدراسات التربوية والنفسية على أن الطفل الذي يعتاد القراءة يكتسب مزايا معرفية وسلوكية تميّزه عن أقرانه الذين لا يمارسون هذه العادة. فالقراءة تُسهم في بناء شخصية متكاملة، متوازنة، قادرة على التفكير النقدي والتحليل، وتوسيع المدارك والانفتاح على الثقافات. وفي هذا المقال المطوّل، سيتم استعراض ست فوائد رئيسية يكتسبها الطفل من تعلّم عادة القراءة، مدعومة بالتحليل والتفصيل، لإبراز مدى أهمية ترسيخ هذه العادة في حياة كل طفل.

1. تنمية القدرات اللغوية واللفظية

تُعَدّ اللغة الركيزة الأولى للتفكير والتعبير والتواصل، والقراءة تُعدّ من أبرز الوسائل التي تساهم في تعزيز المهارات اللغوية لدى الطفل. عندما يعتاد الطفل القراءة، يتعرض باستمرار لمفردات جديدة وتراكيب لغوية متنوعة، مما يساهم في توسيع ثروته اللفظية.

كما أن القراءة المتكررة للنصوص تُعزز من فهم الطفل للبنية النحوية للجمل، وتُحسّن من أسلوبه في التعبير الشفهي والكتابي على حد سواء. الأطفال القارئون يتميزون بقدرتهم على صياغة الأفكار بطريقة منظمة ومنطقية، كما أنهم أكثر دقة في استخدام الكلمات، وأقدر على إيصال مشاعرهم وأفكارهم بوضوح.

وقد أثبتت دراسة أجريت بجامعة “ساسيكس” البريطانية أن الأطفال الذين يُعرضون للقراءة يوميًا في سنواتهم الأولى يطوّرون مهارات لغوية تتقدّم بمقدار سنة كاملة مقارنةً بمن لا يقرأون، مما يؤكد الأثر الإيجابي المباشر للقراءة على تطور اللغة والقدرة التعبيرية لدى الأطفال.

2. تعزيز القدرات العقلية وتنشيط الدماغ

القراءة ليست مجرد عملية ميكانيكية لنقل الكلمات من الورق إلى الدماغ، بل هي نشاط معرفي عميق يتطلب تفاعلاً مستمرًا بين الفهم والتحليل والربط المنطقي. وعند ممارسة الطفل للقراءة بانتظام، يتم تحفيز مجموعة من المناطق الدماغية المسؤولة عن الإدراك والمعالجة الذهنية.

تُسهم القراءة في تعزيز الذاكرة العاملة، والقدرة على التركيز لفترات أطول، وتنمية مهارات حل المشكلات. كما أن الدماغ عند القراءة يُفعّل شبكات عصبية متعددة، تشمل تلك المرتبطة بالتصور البصري والسمعي والحسي والانفعالي، مما يُعزّز من ترابط الخلايا العصبية ويقوّي البنية الذهنية للطفل.

وقد بيّنت الأبحاث في علم الأعصاب التربوي أن الأطفال الذين يقرؤون بانتظام يظهرون نشاطًا متزايدًا في قشرة الدماغ الجبهية المرتبطة بالوظائف التنفيذية، مثل التخطيط والتنظيم والتحكم بالانفعالات، مما يمنحهم قدرة أعلى على مواجهة التحديات اليومية والتفكير بطريقة أكثر مرونة وابتكارًا.

3. بناء الخيال وتنمية الإبداع

من أبرز ما تمنحه القراءة للطفل هو القدرة على التحليق في عوالم غير مألوفة، وتجاوز حدود الواقع المحيط به، ما يُنمّي لديه الخيال والإبداع. ففي كل قصة يقرؤها، يُجبر الطفل على رسم صور ذهنية للمكان والشخصيات والأحداث، مما يُحفّز مخيلته على ابتكار مشاهد وسيناريوهات خاصة.

الخيال الذي تتيحه القراءة يُعدّ حافزًا أساسيًا للإبداع الفني والفكري، ويُشكّل البنية التحتية لكل عملية تخيّل مستقبلي أو استحضار بدائل لحل المشكلات. كما أن القصص الخيالية والتاريخية والرمزية توسّع أفق الطفل وتمنحه أدوات لبناء عالمه الخاص، والتفاعل مع مفاهيم مجردة مثل الخير والشر، والشجاعة والعدل، والوفاء والخيانة.

وقد بيّنت دراسات عدة أن الأطفال الذين ينغمسون في قراءة القصص بانتظام يُظهرون درجات أعلى في اختبارات التفكير الإبداعي، مثل توليد الأفكار الأصلية، والقدرة على الدمج بين أفكار متباينة، وابتكار حلول غير تقليدية.

4. تعزيز الذكاء العاطفي وفهم الذات والآخر

القراءة تُسهم في تطوير ما يُعرف بـ”الذكاء العاطفي”، أي قدرة الطفل على التعرف على مشاعره ومشاعر الآخرين، والتفاعل معها بشكل مناسب. فعندما يقرأ الطفل عن شخصيات تواجه مواقف إنسانية مختلفة، يتعلم كيف يتعاطف معها، ويتأمل في مشاعرها، ويبدأ بفهم طبيعة الانفعالات البشرية المعقدة.

هذه القدرة على فهم الانفعالات تنعكس إيجابًا على علاقاته الاجتماعية، وتُساعده في بناء صداقات صحية، والتواصل مع الآخرين بلطف واحترام، وحل النزاعات بطريقة بنّاءة. الأطفال الذين يقرؤون القصص الإنسانية والسير الذاتية والروايات العاطفية، غالبًا ما يكونون أكثر تفهّمًا للآخر، وأقل ميلًا إلى السلوك العدواني أو الانفعالي.

القراءة تُساعد الطفل أيضًا على فهم نفسه، واكتشاف ميوله واهتماماته، والتأمل في قيمه وأفكاره. وقد أثبت علم النفس التربوي أن الأطفال الذين يقرأون عن تجارب متنوعة يطوّرون وعيًا ذاتيًا أعلى، مما يُعزّز من ثقتهم بأنفسهم، ويمنحهم قدرة أفضل على اتخاذ قرارات مستقلة.

5. النجاح الأكاديمي وتوسيع المدارك المعرفية

تشير الإحصاءات التعليمية إلى وجود علاقة طردية قوية بين عادة القراءة والنجاح الأكاديمي. فالطفل الذي يقرأ كثيرًا يكون أكثر قدرة على فهم المحتوى الدراسي، وتحليل المعلومات، وربط المعارف ببعضها البعض. كما أن القراءة تُزوّده بمعرفة خلفية شاملة حول موضوعات متعددة، مما يُسهّل عليه استيعاب الدروس في مجالات العلوم، والتاريخ، والجغرافيا، وغيرها.

القراءة المستمرة تُنمّي لدى الطفل ثقافة عامة واسعة، وتمنحه القدرة على المشاركة في النقاشات الصفّية بشكل فعّال، وتُعزّز من مهاراته في الكتابة والبحث والتفكير النقدي. كما أن القراءة المستقلة تُعوّده على التعلم الذاتي، وتجعله أكثر اعتمادًا على نفسه في تحصيل المعرفة، وهو ما يُعدّ من أهم مؤشرات النجاح الدراسي طويل الأمد.

ويُبيّن الجدول التالي أثر القراءة على التحصيل الدراسي مقارنةً بالأطفال الذين لا يقرؤون بانتظام:

6. ترسيخ القيم الأخلاقية والاجتماعية

تلعب القراءة دورًا محوريًا في غرس القيم والمبادئ في نفس الطفل. فالكثير من القصص والروايات تُقدّم دروسًا أخلاقية من خلال المواقف التي تمر بها الشخصيات، ما يُساعد الطفل على استيعاب هذه القيم بطريقة غير مباشرة ومؤثرة. ومن خلال التماهي مع الأبطال الإيجابيين، يبدأ الطفل في تقليد سلوكهم، مما يُعزّز من حسّه الأخلاقي والإنساني.

كما تُساهم القراءة في تشكيل الوعي الاجتماعي للطفل، وتعريفه بثقافات أخرى، ومساعدته على فهم التنوّع وقبول الآخر. فهي تفتح له نوافذ على عوالم بعيدة، وتُعرّفه بمعاناة الآخرين وتجاربهم، مما يُعمّق لديه روح الانتماء الإنساني، ويغذّي شعوره بالمسؤولية تجاه المجتمع.

القصص التي تحتوي على مضامين أخلاقية كالصداقة، والتسامح، والإيثار، والصبر، تُرسّخ هذه القيم في وجدان الطفل، وتُشكّل جزءًا من شخصيته وسلوكياته اليومية. كما أنها تُساعده على فهم نتائج الأفعال الخاطئة، وبالتالي بناء حس داخلي يوجّهه نحو السلوك القويم دون الحاجة إلى التوجيه المباشر المستمر من الكبار.

الخاتمة

إن غرس عادة القراءة في الطفل منذ سنواته الأولى هو استثمار طويل الأمد في تنمية شخصيته وتوسيع مداركه. فهي لا تمنحه فقط وسيلة للتعلّم والمتعة، بل تُشكّل عمادًا لنموّه اللغوي، والعقلي، والعاطفي، والاجتماعي. ومن خلال القراءة، ينشأ الطفل أكثر وعيًا بذاته والعالم، أكثر إبداعًا، وأعلى قدرة على النجاح في مجالات الحياة المختلفة. إنها عادة لا تُبنى في يوم وليلة، ولكن أثرها يبقى راسخًا مدى الحياة، يُصقل الفرد ويُهيئه ليكون عضوًا فاعلًا ومستنيرًا في المجتمع.

المراجع:

1. National Literacy Trust (2020). “The impact of reading for pleasure on children’s success”.

2. OECD (2019). “PISA 2018 Results: What Students Know and Can Do”.