التعليم الأولي بين الاختيارية والإلزامية: دراسة تحليلية في ضوء التحديات المعاصرة

يمثل التعليم الأولي المرحلة التمهيدية والأساسية في مسار التربية والتعليم، حيث تُغرس فيه اللبنات الأولى لتشكيل شخصية الطفل وتنمية مداركه وقدراته الإدراكية والاجتماعية والعاطفية. وتكمن أهمية هذا النوع من التعليم في تأثيره العميق والطويل المدى على المسيرة التعليمية والحياتية للفرد، وهو ما جعل موضوع إلزامية التعليم الأولي أو اختياريته من القضايا التربوية المحورية التي تثير جدلاً واسعاً بين الباحثين والممارسين وصانعي السياسات.

في ضوء التحولات الكبرى التي يعرفها العالم اليوم على المستويات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، تبرز الحاجة الملحة لإعادة التفكير في موقع التعليم الأولي ضمن المنظومة التعليمية، وفي درجة إلزاميته ومدى قدرته على مواجهة تحديات التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. سنحاول في هذا المقال دراسة هذه الإشكالية من مختلف زواياها، اعتماداً على مقاربات تربوية وقانونية وسوسيولوجية، وبالاستناد إلى النماذج الدولية والممارسات الوطنية.

المفهوم والبنية التربوية للتعليم الأولي

يشير التعليم الأولي إلى المرحلة التعليمية التي تسبق التعليم الابتدائي، ويستهدف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم عادة بين 3 و6 سنوات، وإن كانت هذه الفئة العمرية قد تختلف من بلد إلى آخر بحسب السياقات القانونية والثقافية. يهدف التعليم الأولي إلى تحفيز النمو الشامل للطفل، من خلال توفير بيئة تعليمية آمنة ومحفزة تساعده على تنمية مهاراته المعرفية والحركية واللغوية والعاطفية والاجتماعية.

تتجلى خصوصية التعليم الأولي في كونه يقوم على مناهج مرنة، تعتمد على اللعب والتفاعل، أكثر من اعتمادها على التلقين والامتحانات. وتتميز البنية التربوية لهذه المرحلة بتركيزها على الأنشطة المفتوحة التي تحفز خيال الطفل وتغذي حسه بالاكتشاف والملاحظة والتجريب.

السياقات القانونية: بين الاختيار والإلزام

ينقسم العالم إلى اتجاهين متباينين في ما يخص الإطار القانوني للتعليم الأولي:

• الدول التي تعتمد الإلزامية: مثل فرنسا، حيث أقر قانون التربية الوطنية سنة 2019 إلزامية التعليم الأولي للأطفال ابتداءً من سن الثالثة. وتهدف هذه الإلزامية إلى تقليص الفوارق الاجتماعية وتحقيق تكافؤ الفرص منذ المراحل الأولى من الحياة.

• الدول التي تبقيه اختيارياً: مثل العديد من الدول العربية، حيث ما زال التعليم الأولي غير ملزم قانونياً، ويُترك الأمر لتقدير الأسر، مما يؤدي إلى تفاوت كبير في الالتحاق به بين الأوساط الحضرية والقروية، وبين الطبقات الاجتماعية المختلفة.

وتكمن الإشكالية في غياب رؤية موحدة في كثير من الدول النامية حول ضرورة هذا التعليم، وتباين السياسات التعليمية في التعامل معه كحق للطفل أو كخيار تربوي قابل للتجاهل.

الحجج المؤيدة للإلزام

يستند دعاة إلزامية التعليم الأولي إلى مجموعة من المبررات العلمية والاجتماعية، من أبرزها:

1. تقليص الفوارق الاجتماعية

تشير الدراسات إلى أن الأطفال الذين ينحدرون من أوساط اجتماعية هشة أو محرومة يفتقدون إلى بيئة تعليمية محفزة في سنواتهم الأولى، مما يجعلهم أقل استعداداً للاندماج في التعليم الابتدائي. وإلزامية التعليم الأولي تُعتبر خطوة في اتجاه ضمان المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع الأطفال.

2. تعزيز النمو المعرفي والوجداني

أكدت أبحاث علم الأعصاب أن السنوات الخمس الأولى من عمر الإنسان تعرف نمواً متسارعاً في الشبكات العصبية، وهو ما يجعل هذه المرحلة حاسمة في بناء القدرات العقلية واللغوية والعاطفية. وبالتالي، فإن تعميم التعليم الأولي من شأنه استثمار هذه الفترة الذهبية في تنمية الكفايات الأساسية.

3. دعم التمدرس لاحقاً

أظهرت التجارب الدولية أن الأطفال الذين يستفيدون من تعليم أولي جيد تكون معدلات نجاحهم أعلى في المراحل اللاحقة، كما تنخفض لديهم نسب الهدر المدرسي، ويرتفع مستوى اندماجهم داخل الفصول الدراسية.

4. التماهي مع اتفاقية حقوق الطفل

تقر الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل (1989) بحق الطفل في التعليم منذ سنواته الأولى، وهو ما يشكل دعامة قانونية لتبني إلزامية هذا النوع من التعليم، باعتباره مدخلاً لاحترام الحق في التعلم والرعاية.

الحجج المؤيدة للاختيارية

رغم الحجج القوية التي تدعم الإلزام، إلا أن ثمة أصوات ترى أن الإبقاء على طابع الاختيارية قد يكون أكثر انسجاماً مع خصوصيات المجتمعات، وتعتمد في ذلك على مبررات متعددة:

1. الحفاظ على التنوع الثقافي والأسري

في بعض المجتمعات التقليدية، تلعب الأسرة دوراً مركزياً في تنشئة الطفل خلال السنوات الأولى، ويُنظر إلى التعليم الأولي باعتباره تدخلاً غير مبرر في مجال من المفترض أن يكون من اختصاص الأسرة. ومن ثم، فإن فرضه قد يُعد مساساً بالسيادة التربوية للأهل.

2. ضعف البنيات التحتية

في العديد من البلدان النامية، لا تتوفر المؤسسات الكافية أو الموارد البشرية المؤهلة لضمان تعليم أولي ذي جودة. وتطبيق الإلزامية في ظل هذا الواقع قد يؤدي إلى نتائج عكسية، تتمثل في تعميم تعليم ضعيف الجودة يضر أكثر مما ينفع.

3. الكلفة الاقتصادية

يفرض التعليم الأولي الإلزامي على الدولة التزامات مالية كبيرة من حيث التوظيف والبنية التحتية والتأطير، وقد تكون هذه التكاليف صعبة التحمل في السياقات الاقتصادية الهشة. كما قد تتحمل الأسر كلفة إضافية إن لم يكن التعليم الأولي مجانياً.

التجربة المغربية: نموذج للتدرج في الإلزام

شهد المغرب خلال السنوات الأخيرة طفرة نوعية في الاهتمام بالتعليم الأولي، تجسدت في الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 التي نصت على تعميم التعليم الأولي وتحسين جودته. وفي سنة 2018، تم إطلاق البرنامج الوطني لتعميم وتطوير التعليم الأولي، وهو ما يدل على التوجه التدريجي نحو إلزاميته، مع اعتماد مقاربة تشاركية بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص.

ورغم ذلك، ما زالت التحديات قائمة، سواء على مستوى تعميم الولوج، أو من حيث الجودة والتكوين، ما يطرح سؤالاً حول مدى قدرة النظام التعليمي المغربي على تحقيق إلزامية فعلية وشاملة للتعليم الأولي.

تحليل مقارن: بين النموذجين الفرنسي والفنلندي

النموذج الفرنسي:

• إلزام التعليم الأولي منذ سن الثالثة.

• تركيز على الأبعاد اللغوية والتحضيرية.

• توظيف معلمين خاضعين لتكوين أكاديمي صارم.

• مراقبة صارمة لجودة المؤسسات.

النموذج الفنلندي:

• تعليم أولي مجاني واختياري إلى غاية سن السادسة.

• اعتماد أسلوب تربوي موجه نحو اللعب والتعلم الذاتي.

• مشاركة الأسرة في تحديد المسار التربوي للطفل.

• تركيز على الراحة النفسية أكثر من الأداء الأكاديمي المبكر.

ويُظهر التحليل أن كلا النموذجين يحقق نتائج متميزة، رغم اختلاف مقاربتهما، ما يعني أن النجاح لا يعتمد فقط على الإلزام، بل أيضاً على جودة البيئة التربوية والسياسات المصاحبة.

الجدول التالي يوضح المقارنة بين إلزامية التعليم الأولي واختياريته من حيث النتائج المتوقعة:

نحو مقاربة متوازنة

إن الحسم بين الإلزامية والاختيارية لا يجب أن يكون قراراً أحادي البعد، بل ينبغي أن يُبنى على تحليل عميق للواقع الاجتماعي والاقتصادي والتربوي. وقد تكون المقاربة المثلى هي التدرج في الإلزام، مقروناً بإصلاحات هيكلية تضمن توفير الموارد البشرية والمالية والبيداغوجية الكافية. كما يجب إشراك الأسر في هذا التحول، من خلال برامج تحسيسية وتكوينية توضح أهمية التعليم الأولي، وتبني جسور الثقة بين الأسرة والمدرسة.

الخلاصة

التعليم الأولي ليس مجرد مرحلة تمهيدية عابرة، بل هو استثمار استراتيجي في الإنسان والمجتمع. والاختيار بين جعله إلزامياً أو إبقائه اختيارياً ينبغي أن يُنظر إليه من زاوية الأثر طويل المدى على العدالة الاجتماعية والتقدم البشري. إن اعتماد سياسات عمومية متوازنة، قائمة على الأدلة العلمية وعلى تشخيص دقيق للواقع، هو السبيل الوحيد لتطوير هذا القطاع الحاسم في البناء التربوي للأمم.

المراجع:

1. منظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF)، تقارير التعليم المبكر، 2022.

2. وزارة التربية الوطنية الفرنسية، قانون إلزامية التعليم الأولي، 2019.