حكم المتنبي في الصداقة

حكم المتنبي عن الصداقة

يُعد الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي من أبرز الشعراء الذين جادت بهم الساحة الأدبية العربية، وقد امتاز شعره بالغنى اللغوي والتصوير البلاغي العميق. حيث كان له إسهامات عظيمة في مجالات متعددة، منها الحكمة والفلسفة والحديث عن العلاقات الإنسانية بما في ذلك الصداقة.

إنَّ المتنبي في شعره تناول موضوعات مختلفة تتراوح بين الفخر والحكمة، وشدد على العديد من القيم الإنسانية النبيلة، وأهمها الصداقة. فقد نظر إلى الصداقة نظرة فلسفية معقدة تتخطى حدود العلاقات اليومية أو المصالح الشخصية. كان يراها على أنها من أسمى الروابط التي قد يمر بها الإنسان، وتعكس معاني الوفاء، والمثابرة، والإيثار، وقد تناولها في العديد من أبياته التي تحاكي صدق العواطف وتقلبات الحياة.

1. الصداقة في رؤية المتنبي:

لا شك أنَّ المتنبي كان يرى في الصداقة سمة من سمات القيم العليا التي تشكل شخصية الإنسان العظيمة. ففي شعره نجد تجسيداً لمعنى الصداقة التي يجب أن تتجاوز المنافع المادية، وتقتصر على الوفاء والإخلاص. كانت الصداقة عنده خيطاً رفيعاً يربط بين الروح والإنسان، وهي علاقة تتطلب النبل والسمو في المعاملة. فقد كان المتنبي يرى أنَّ الصديق الحقيقي هو من يقف بجانبك في الشدائد، ولا يتخلى عنك عندما يختفي الجميع.

قد يبدو أن المتنبي يُعلي من شأن الوفاء في الصداقة، حيث كان يعبر عن الصداقة النقية التي تتجاوز المنفعة الشخصية. فكان يُقَيم الصداقات على أساس من الحب الصادق والنبل، بعيدًا عن أي مصالح دنيوية. لذلك، نجد في بعض أبياته إشارات إلى أن الصداقة الحقيقية لا يمكن أن تَحِيد عن قِيَمٍ إنسانية مثالية.

2. الوفاء في الصداقة:

يعد الوفاء من أبرز القيم التي حرص المتنبي على إبرازها في شعره، وقد اعتبره حجر الزاوية في بناء الصداقات المتينة. في العديد من أبيات المتنبي نجد أنَّ الوفاء هو الطريق الذي يُثبت فيه المرء أحقية صديقه، فهو لا يُقيِّم الصداقات على المعاملة المادية أو المجاملات، بل على صدق الوعود والوقوف إلى جانب الآخر في اللحظات الصعبة.

من أبرز أبياته التي تعبر عن ذلك قوله:

إذا كان صديقك قد تعرض لظروف قاسية، فكن أنت ملاذه، فإنَّ صديقًا كهذا سيظل ثابتًا في مواجهة كل المحن.

وهذا يظهر إيمان المتنبي بأنَّ الوفاء في الصداقة ليس مجرد كلمات يتبادلها الأصدقاء، بل هو تصرفات وأفعال تثبت هذه القيم وتزرع في النفس الإيمان الدائم بالعلاقة.

3. المتغيرات في الصداقات:

رغم أن المتنبي كان يُسَيِّجُ الصداقة بالكثير من الإشراقات والمثالية، إلا أنه لم يكن يغفل عن واقع الحياة المتغير. فقد بيَّن في شعره أن الصداقات قد تمر بفترات من الشكوك والتقلبات، لكنها تبقى في جوهرها اختبارًا حقيقيًا للصدق والوفاء. في مقاطع من شعره، يرى المتنبي أنَّ الصداقات تتغير بتغير الظروف والزمان، حيث أنَّ العديد من العلاقات تُظهر معدن الناس الحقيقي في أوقات الشدائد.

وكان يرى أنَّ الأصدقاء الذين يثبتون في هذه الظروف هم الأصدقاء الحقيقيون الذين لا تُبَعدهم المصاعب عن مسارهم. من هنا نجد المتنبي يعبر عن الخيانة التي قد تحدث في الصداقات بأسلوب شعري لاذع، ليُظهر أنَّ الوفاء ليس مجرد كلمات، بل سلوك دائم لا يتغير مع تغير الظروف.

4. الصديق المزيف في شعر المتنبي:

كان المتنبي حريصًا في تعريفه للصديق الحقيقي، إذ كان يُميز بين الصداقات التي تقوم على مصالح مشتركة وبين تلك التي تقوم على النبل والإخلاص. في شعره، نجد إشارات مباشرة وغير مباشرة تحذر من الصداقات الزائفة التي تنتهي في أول محنة. وقد أشار إلى أنَّ الصديق المزيف يتسلل إلى الحياة كغريب، ويظهر عندما تكون الأوقات سهلة، لكن سرعان ما يتخلى عنك في لحظات العسر.

أحد أبياته الشهيرة في هذا السياق هو:

لا تصاحب من لا يخلص لك في الشدة، فإنه في السعة لن يفي لك بوعد.

هذا البيت يعكس بوضوح نظرة المتنبي إلى صديق المصالح، الذي يُظهر لك الوفاء في الظروف السهلة، ولكنه يختفي عندما تحل عليك الأزمات. لذا، كان المتنبي يوجه تحذيرات لمن هم في دائرة علاقاتهم على أهمية التفريق بين الصداقات الحقيقية والصداقة المصطنعة.

5. العدو الذي يرتدي ثوب الصداقة:

فيما يخص الأعداء الذين يتنكرون في ثوب الصداقة، نجد أنَّ المتنبي كان من أكثر الشعراء تحذيرًا منهم. فقد كان يعتبر أن العدو في كثير من الأحيان قد يتسلل إلى حياتك متخذًا شكل الصديق، ليكون له تأثير سلبي في المستقبل. وقد عبَّر عن هذا المعنى في العديد من قصائده التي تؤكد أن العدو لا يتخلى عن أدواره المدمرة حتى في الصداقات.

من أبرز مقاطع المتنبي في هذا الصدد:

أنتَ العدو الذي يبتسم في وجهك، لكن حينما تحلّ المحنة يتنكر لك.

6. الصداقة كعلاقة نادرة:

الحديث عن الصداقة في شعر المتنبي لا يأتي إلا في سياق الاستثناء، حيث يُعدها من أندر العلاقات الإنسانية التي قد يمر بها الإنسان. وفي هذا الصدد، كان المتنبي يراها علاقة تتطلب صبرًا طويلًا، وإخلاصًا عميقًا، وشجاعة لتجاوز كل الصعاب التي قد تعترضها. وهو ما يجعل الصداقة التي يتحدث عنها المتنبي غير قابلة للتكرار بسهولة، إذ هي التي تنبثق من صميم التجارب الحياتية العميقة.

في ختام حديثه عن الصداقة، كان المتنبي يؤمن أن الصداقة الحقيقية هي تلك التي تستمر وتدوم عبر الزمن، وهي تلك التي تكون عونًا لصاحبها في الأوقات الصعبة. هذه الصداقات ليست مجرد علاقات قائمة على المصالح المتبادلة، بل هي روابط إنسانية قائمة على الإيمان بالقيم السامية، وعلى النبل والوفاء، وعلى الشجاعة في مواجهة تحديات الحياة.

7. خاتمة الصداقة في شعر المتنبي:

الصداقة في نظر المتنبي ليست مجرد علاقة اجتماعية عابرة، بل هي فلسفة حياة بأبعاد عميقة ومعقدة. ومن خلال شعره، يبرز المتنبي كأحد أبرز الشعراء الذين تناولوا مفهوم الصداقة بشكل فلسفي وواقعي في آن واحد. فقد رأى فيها تجسيدًا للوفاء، النبل، والمواقف العظيمة التي قد تجمع بين الأصدقاء في أقسى الظروف. كانت الصداقة في شعره مجالًا لتوضيح معاني الشرف والكرامة، وفهم الإنسان لعلاقاته الاجتماعية في إطار من الحكمة والعقلانية.