تقليل إصدار الأحكام

يُعدّ إصدار الأحكام على الآخرين سلوكاً شائعاً بين البشر، يعود إلى آليات نفسية واجتماعية معقدة، تتجذر في التجربة الشخصية، والتنشئة الثقافية، والآليات الدفاعية الداخلية. غير أن هذا السلوك كثيرًا ما يكون مصدراً لسوء الفهم، وتدهور العلاقات الاجتماعية، وتكريس الصور النمطية. في عالم بات يتجه نحو مزيد من الوعي والتسامح والتفاهم، يصبح تقليل إصدار الأحكام على الآخرين ضرورة لبناء بيئة إنسانية أكثر توازناً واحتواء.

تتعدد الدوافع التي تقود الإنسان للحكم على غيره، وقد تكون هذه الأحكام مبنية على مظاهر خارجية، مواقف عابرة، خلفيات ثقافية أو اجتماعية، أو حتى أفكار مسبقة تتناقلها المجتمعات دون تحقق أو تمحيص. لكن الأثر السلبي لهذا التسرع في التقييم قد يمتد إلى إشعال النزاعات، وتغذية التمييز، وتقويض الثقة بين الأفراد.

الجذور النفسية لإصدار الأحكام

يتولد الحكم على الآخرين غالبًا من حاجة نفسية داخلية إلى الشعور بالتفوق أو الأمان. عندما يشعر الإنسان بعدم الرضا عن ذاته أو بتهديد ما، يلجأ – أحيانًا لا شعوريًا – إلى تقليل قيمة الآخر لتأكيد مكانته. يُعرف هذا في علم النفس بآليات الإسقاط والدفاعات النفسية، حيث يُسقط الإنسان مشاكله أو مشاعره السلبية على الآخرين بدلاً من مواجهتها داخلياً.

كما تلعب البرمجة الذهنية دوراً مهماً في تعزيز الميل للحكم، إذ يُنشأ بعض الأفراد ضمن بيئات أسرية أو مجتمعية تُشجع على التقييم السريع وتغذي الأحكام النمطية حول الآخرين بناءً على العِرق، الملبس، المعتقد أو المستوى الاقتصادي.

الآثار السلبية للحكم على الآخرين

1. تشويه العلاقات الاجتماعية

يؤدي الحكم المسبق إلى بناء جدران بين الأفراد بدلاً من جسور التفاهم. فبدلاً من محاولة الفهم والتقارب، يُستبعد الشخص الآخر من مساحة التفاعل الإيجابي، ما يؤدي إلى عزلته أو تصنيفه بشكل مجحف.

2. تغذية الصور النمطية

يساهم التسرع في إصدار الأحكام في تعزيز التنميطات الاجتماعية التي تُقيّد الأفراد وتحصرهم في قوالب ضيقة، ما يحدّ من إمكاناتهم ويؤثر في ثقتهم بأنفسهم.

3. تقليل فرص النمو الشخصي

عندما يحكم الإنسان على الآخرين بشكل دائم، يُغلق باب الاستفادة من تجاربهم المختلفة، كما يُفقد نفسه القدرة على التعلّم من التنوّع الإنساني.

4. تأثير سلبي على السلام النفسي

يرتبط الميل إلى النقد المتواصل للآخرين بشعور داخلي بالقلق أو بعدم الرضا. فتراكم الأحكام قد يولّد حالة مزمنة من الانزعاج الداخلي تؤثر على توازن الفرد وسلامه النفسي.

خطوات عملية لتقليل إصدار الأحكام

1. تعزيز الوعي الذاتي

الخطوة الأولى تتمثل في إدراك الفرد لميوله الشخصية في إصدار الأحكام. من المفيد أن يراقب الشخص أفكاره عندما يقابل شخصاً جديداً أو يواجه سلوكًا غير مألوف، وأن يسأل نفسه: “هل أُصدر حكماً؟ ما دافعي؟ هل أملك معطيات كافية؟”. هذا التمرين الذاتي يفتح باباً للتغيير.

2. ممارسة التعاطف

التعاطف هو القدرة على وضع النفس مكان الآخر. عندما يُدرّب الفرد نفسه على تخيّل ظروف الآخرين وتجاربهم ومشاعرهم، يصبح أقل ميلاً إلى التقييم السريع وأكثر انفتاحاً على الفهم.

3. تبني فضول صحي بدلًا من النقد

بدلاً من رفض ما هو مختلف، يمكن تحويل النظرة إلى الآخر إلى فضول إيجابي. لماذا اختار هذا الشخص لباسه بهذا الشكل؟ ما الذي مرّ به ليصل إلى هذه القناعة؟ الأسئلة الفضولية تفتح باب الحوار والتعلم وتغلق باب الحكم المُسبق.

4. التركيز على الذات وتطويرها

كلما زاد تركيز الإنسان على تحسين ذاته وتطوير مهاراته الداخلية، قلّ انشغاله بتقييم الآخرين. فالنضج النفسي يعني الانشغال بتحقيق التوازن الداخلي بدلاً من البحث عن أخطاء الآخرين.

5. تدريب العقل على التريّث

يمكن تدريب العقل على تأخير الحكم من خلال تمارين يومية مثل التأمل أو الكتابة أو التأمل الذهني. هذه التمارين تُقلّل من ردود الفعل السريعة وتُعزّز التفكير المتأني.

6. قبول التنوع والاختلاف

يُعدّ إدراك أن الاختلاف سمة أساسية في الطبيعة البشرية مدخلاً أساسياً لتقليل إطلاق الأحكام. فكل فرد ينتمي إلى بيئة مختلفة، ويتكوّن من تجارب وأفكار لا تتشابه بالضرورة مع غيره. قبول هذا التنوع هو مفتاح للتعايش السلمي.

دور التربية والمجتمع في الحد من الأحكام المسبقة

1. التنشئة الأسرية الواعية

يبدأ بناء الإنسان منذ سنواته الأولى داخل الأسرة. حين يكبر الطفل في جو يعلّمه احترام الآخر وتقديره دون تصنيفه أو التهكّم عليه، فإنه يحمل هذه القيم معه إلى المدرسة، ثم إلى المجتمع الأوسع.

2. الخطاب الإعلامي والتربوي

تلعب وسائل الإعلام والتعليم دورًا محوريًا في ترسيخ ثقافة التسامح. فالبرامج التعليمية التي تُعزز من قيمة الفهم والحوار، بدلًا من التقييم والفرز، تُنتج أجيالاً أقل ميلاً إلى إصدار الأحكام.

3. خلق بيئة مجتمعية حاضنة

كلما اتسعت دائرة التفاهم داخل المجتمع وتوفرت المساحات الآمنة للتعبير عن الاختلاف، تضاءلت الحاجة إلى إطلاق الأحكام. البيئة التي تحتضن التنوع وتُكرّم الكرامة الإنسانية، تكون أقل نزوعًا للتمييز.

ارتباط الحكم على الآخرين بمفاهيم أخلاقية ودينية

تؤكد معظم الأديان والفلسفات الأخلاقية على أهمية تجنب إطلاق الأحكام، إذ لا يمكن لإنسان أن يُدرك ظروف غيره أو نياته أو ماضيه بشكل كامل.

في الإسلام مثلاً، يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “هل شققتَ عن قلبه؟”، إشارة إلى عدم جواز الحكم على نوايا الآخرين. كما ورد في القرآن الكريم:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ” [الحجرات: 12]، ما يعكس تحذيرًا واضحًا من التسرع في إصدار الأحكام المبنية على الظنون.

وفي الفلسفة البوذية، يُعدّ الوعي بالذات والامتناع عن الحكم أحد أركان المسار نحو التنوير، إذ يُعتبر الحكم على الآخرين نوعًا من التعلق العقلي الذي يُقيّد الإنسان في دائرة الوهم والمعاناة.

جدول: مقارنة بين شخصية مُحكِّمة وشخصية مُتفهِّمة

مسار طويل نحو الوعي والتحرر

التحرر من عادة الحكم على الآخرين ليس مهمة تُنجز في يوم أو شهر. إنه مسار طويل يتطلب صدقاً داخلياً ومجاهدة نفسية مستمرة، يتضمن مراجعة الذات، والاعتراف بالتقصير، وممارسة الانفتاح الذهني. وقد يكون التغيير بطيئًا في البداية، لكنه يُثمر في النهاية عن علاقات أكثر نقاءً، وذهن أكثر صفاءً، وروح أكثر رحابة.

كل خطوة نخطوها نحو تقليل إصدار الأحكام هي خطوة نحو إنسانيتنا الحقيقية.

المراجع

• النَّفْس والمجتمع، إريك فروم

• الذكاء العاطفي، دانيال جولمان

• علم النفس الاجتماعي، د. أحمد عبد الخالق

• القرآن الكريم، سورة الحجرات

• السنة النبوية، صحيح البخاري

• The Psychology of Judgment and Decision Making – Scott Plous

• The Art of Thinking Clearly – Rolf Dobelli