أسطورة تعدد المهام: لماذا تؤدي أولويات أقل إلى عمل أفضل؟
في عالمنا المعاصر، الذي يعج بالمحفزات والضغوط اليومية، أصبح تعدد المهام (Multitasking) بمثابة الأسطورة التي تبناها الكثيرون باعتبارها الطريقة المثلى لتحقيق النجاح وتحقيق أقصى استفادة من الوقت. من الرد على رسائل البريد الإلكتروني أثناء اجتماع العمل، إلى العمل على عدة مشاريع في الوقت نفسه، يعتقد الكثيرون أن القيام بأمور متعددة في ذات الوقت يعكس الكفاءة والإنتاجية العالية. ولكن الحقيقة هي أن هذا المفهوم أصبح يتعرض لتحديات متزايدة من قبل الأبحاث العلمية والدراسات النفسية، التي تشير إلى أن تعدد المهام قد لا يكون في الواقع هو الطريق إلى الإنتاجية المثلى. بدلاً من ذلك، تكشف هذه الدراسات أن تقليص الأولويات والتركيز على مهمة واحدة في كل مرة يمكن أن يؤدي إلى نتائج أفضل وأكثر فعالية. في هذا المقال، سنتناول تفاصيل هذه الأسطورة وكيف يمكن تقليص الأولويات لتحقيق أفضل أداء.
1. التعددية في المهام: مفهومها وأثرها النفسي
يُفهم تعدد المهام على أنه القدرة على إتمام أكثر من مهمة في نفس الوقت. لكن ما يعتقده الكثيرون خطأً هو أن هذه المهام تُنجز في نفس اللحظة، بينما في الواقع، ما يحدث هو أن الدماغ يقوم بتبديل التركيز بين المهام المختلفة بسرعة، مما يؤدي إلى تراجع القدرة على التركيز في أي منها على نحو فعال. أظهرت الدراسات أن الدماغ البشري غير مهيأ لتوزيع الانتباه على أكثر من مهمة واحدة بشكل فعال، خصوصاً عندما تتطلب هذه المهام جهداً ذهنياً.
تشير الدراسات إلى أن الدماغ البشري لا يملك القدرة على إجراء عمليتين معرفيتين في نفس الوقت دون تراجع في الأداء. على سبيل المثال، إذا كنت تجيب على رسائل البريد الإلكتروني أثناء عقد اجتماع أو العمل على مشروع، فإنك في الواقع تقوم بتبديل التركيز بين المهام بشكل مستمر، وهو ما يتسبب في انخفاض فعالية الأداء.
2. الأثر على الأداء والإنتاجية
أظهرت العديد من الدراسات النفسية أن تعدد المهام يؤثر سلباً على الأداء والإنتاجية. ففي عام 2009، أجرى الباحثون في جامعة ستانفورد دراسة تبين فيها أن الأشخاص الذين يظنون أنهم بارعون في تعدد المهام كانوا في الواقع أقل كفاءة من أولئك الذين يركزون على مهمة واحدة في كل مرة. تبيّن الدراسة أن من يعتقدون أنهم يقومون بتعدد المهام كانوا في النهاية أقل قدرة على استرجاع المعلومات، وكان لديهم قدرة أقل على تصنيف الأولويات واتخاذ قرارات عقلانية مقارنة بالأفراد الذين حافظوا على تركيزهم في مهمة واحدة.
يعود ذلك إلى أن الدماغ يعاني من ما يسمى بـ “التبديل المعرفي” (Cognitive Switching)، حيث يتطلب الانتقال من مهمة إلى أخرى وقتاً طويلاً، ويُستهلك من الطاقة العقلية. هذه العملية، على الرغم من كونها سريعة، تؤدي إلى تشتت الانتباه وفقدان الدقة.
3. التركيز على الأولويات: الطريق إلى الإنتاجية العالية
يبدو أن السر في زيادة الإنتاجية يكمن في التركيز على أولويات أقل، والقيام بمهمة واحدة في وقت معين. إذ تشير الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يعطون اهتماماً كاملاً لمهمة واحدة يمكنهم إنجازها بشكل أسرع وأكثر كفاءة. لا يعني ذلك أن تعدد المهام لا يمكن أن يكون مفيداً في بعض السياقات، بل يعني أن القدرة على توجيه التركيز نحو هدف واحد يمكن أن تُحسن الأداء بشكل ملموس.
من المهم أن نتعلم كيفية ترتيب أولوياتنا. في الواقع، وفقًا للمبدأ المعروف في إدارة الوقت (80/20)، نجد أن 80% من نتائجنا تأتي من 20% فقط من الجهود التي نبذلها. يعني هذا أن التركيز على مهام بعينها وإعطائها الأولوية يمكن أن يحقق نجاحًا أكبر من محاولة القيام بكل شيء في نفس الوقت. إن استثمار الوقت والجهد في المهام الأكثر أهمية يُعتبر أحد مفاتيح النجاح.
4. آلية الدماغ في التفاعل مع تعدد المهام
يتعامل الدماغ البشري مع تعدد المهام عن طريق إعادة ترتيب وتركيز الموارد المعرفية بشكل مستمر، مما يؤدي إلى إجهاد ذهني كبير. يقوم الدماغ بتوزيع قدراته المعرفية بين المهام المختلفة ولكن بشكل غير فعال. هذه العملية تستهلك طاقة عقلية، ويؤدي ذلك إلى انخفاض الأداء على المدى البعيد. قد يكون الشخص قادرًا على إتمام المهام، لكنه سيكون أقل دقة وأبطأ.
على سبيل المثال، إذا كنت تقود السيارة أثناء التحدث على الهاتف، فهذا لا يعني أنك تفعل كلا الأمرين بنفس الكفاءة. الدراسات تشير إلى أن التحدث على الهاتف أثناء القيادة قد يزيد من احتمالية الحوادث بسبب تشتت الانتباه، على الرغم من أن السائق قد يظن أنه قادر على القيام بالمهام معًا.
5. أهمية التفكير الاستراتيجي في تحديد الأولويات
القدرة على تحديد أولويات المهام هو العامل الحاسم في تعزيز الأداء. الأشخاص الذين يتبعون أسلوب “تركيز المهمة الواحدة” قادرون على تخصيص وقت كامل للتركيز على المهمة دون أن يتعرضوا للتشتت المستمر. يعتمد هذا على استراتيجية تفكير واضحة ومنهجية تساعد على تعزيز القدرة على اتخاذ القرارات السريعة والفعالة.
أحد أساليب التفكير التي تساعد في تعزيز الإنتاجية هو مبدأ “الإدارة المتكاملة” للوقت، والذي يعتمد على تقسيم الوقت إلى فترات محددة وفقاً للأولويات. فمن خلال تحديد أولويات محددة في اليوم، يمكنك أن تُدير وقتك بشكل أكثر فاعلية، مما يساعد على إتمام المهام بأعلى مستوى من الجودة والسرعة.
6. التأثير على الصحة العقلية والعاطفية
بالإضافة إلى التأثير على الأداء، يمكن أن يؤدي تعدد المهام إلى التأثير السلبي على الصحة العقلية والعاطفية. تظهر الدراسات أن الأشخاص الذين يحاولون القيام بأكثر من مهمة في وقت واحد يتعرضون للضغط النفسي بشكل أكبر، مما يؤدي إلى انخفاض مستويات السعادة والرضا الشخصي. فعندما لا يستطيع الشخص إتمام مهامه بشكل جيد، يتزايد الإحساس بالفشل، مما قد يؤدي إلى مستويات أعلى من القلق والإجهاد.
لذلك، قد يكون تقليص المهام والتركيز على المهم منها أحد الأساليب الفعالة في إدارة الضغوط وتحقيق نتائج أفضل في العمل والحياة الشخصية.
7. التدريب على التركيز: كيف يمكنك تنفيذ استراتيجية “المهمة الواحدة”؟
الانتقال من أسلوب تعدد المهام إلى أسلوب “المهمة الواحدة” يتطلب تدريبًا واعيًا. يمكن أن تبدأ بتخصيص فترات زمنية محددة لكل مهمة في يومك. على سبيل المثال، يمكن تحديد فترة ساعتين للعمل على مشروع معين دون التشتيت عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الرد على رسائل البريد الإلكتروني. مع مرور الوقت، سيتحول التركيز على مهمة واحدة إلى عادة طبيعية ستساعدك على زيادة إنتاجيتك.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام تطبيقات لإدارة الوقت مثل “Pomodoro” لتحديد فترات زمنية مركزة تتيح لك التركيز بشكل أفضل، مع فترات راحة قصيرة للمساعدة في تجديد الطاقة العقلية.
8. الختام: تبني ثقافة التركيز في العمل والحياة اليومية
إذا كانت فكرة تعدد المهام تبدو جذابة، فالحقيقة هي أن تقليص الأولويات والتركيز على مهمة واحدة في وقت معين هو ما يعزز فعلاً الأداء والإنتاجية. إن تبني هذه الثقافة في العمل والحياة اليومية ليس مجرد وسيلة لتحسين الأداء، بل هو أيضًا خطوة نحو تحسين الصحة العقلية والعاطفية، وتقليل مستويات الإجهاد. لا تحتاج إلى التعامل مع كل شيء في نفس الوقت؛ بل بإمكانك تحقيق أفضل النتائج من خلال تبني استراتيجية “المهمة الواحدة” والعمل على تحسين تركيزك في كل مهمة تقوم بها.
