فهم مربع بتاري: تأثير المواقف على السلوك

يُعتبر مربع بتاري (أو ما يُسمّى أحيانًا بدورة بتاري) أحد النماذج النفسية والسلوكية المهمّة التي تُلقي الضوء على كيفية تأثير مواقف الأفراد على سلوكهم، وكيف ينعكس هذا السلوك بدوره على مواقف الآخرين، مما يؤدي إلى حلقة متتابعة قد تكون بنّاءة أو هدامة في العلاقات الإنسانية. يعدّ هذا النموذج من النماذج الشهيرة في ميدان التنمية البشرية والإدارة وتنمية المهارات الشخصية، إذ يساعد على فهم العوامل النفسية والاجتماعية التي تدفع الفرد إلى تبنّي مواقف معيّنة، ثم كيف تترجم هذه المواقف إلى سلوك واقعي، وكيف قد تؤثر على مواقف الأطراف المقابلة، ومن ثم تخلق دائرة كاملة من الفعل ورد الفعل.

يركّز مربّع بتاري بشكل جوهري على الحلقة المفرغة أو الحلقة البنّاءة التي تتكوّن بين موقفي وسلوكي من جهة، وموقف وسلوك الآخرين من جهة أخرى. فموقف الفرد (Attitude) يؤثر في سلوكه (Behavior)، وسلوك الفرد قد ينعكس على الآخرين فيؤثر في مواقفهم، ثم تنعكس تلك المواقف على سلوكهم، وهو ما يعزز أو يبدّل مواقفي أنا مجددًا، وهكذا تستمر العملية. لذا، فإن فهم هذه الحلقة والتعمّق في تفاصيلها يُعدّ مفتاحًا رئيسيًا لتطوير العلاقات الفعّالة وإحداث التغييرات الإيجابية سواءً على المستوى الشخصي أو المهني.

أصل مفهوم مربع بتاري

تعود الجذور الفكرية لمفهوم مربع بتاري إلى عدّة مصادر في علم النفس الاجتماعي وعلم النفس الإداري. وقد جرى تطوير هذا المفهوم وإعادة صياغته في أطر متعددة على يد مختصين في الإدارة والموارد البشرية وعلم النفس التنظيمي، حتى أصبح نموذجًا شائعًا للتوعية بأهمية المواقف وطريقة التعامل مع الآخرين.

تشير بعض الآراء إلى أن فكرة مربع بتاري تُشتق بشكل أو بآخر من مجموعة من النظريات السيكولوجية التي تُظهر العلاقة بين العمليات الذهنية والعاطفية (كالمعتقدات والقيم والتصورات) وبين السلوك الناتج عنها. وقد تم تسليط الضوء عليه في الورش التدريبية للأشخاص العاملين في القيادة وإدارة الفرق، حيث يُستخدم كأساس لتفسير الكيفية التي تتكامل بها مواقف المديرين مع سلوكياتهم في صناعة بيئة العمل، وكيف تؤثر سلوكياتهم هذه على مواقف الموظفين وسلوكياتهم اللاحقة.

مكونات مربع بتاري: الموقف والسلوك وعلاقتهما بدورة التأثير

يتكوّن مربع بتاري من أربعة أركان رئيسية تُرسم عادةً بشكل صندوق يتواصل كل ركن فيه مع الأركان الأخرى وفق سهام ترمز إلى التبادل المستمر للتأثير. الأركان الأربعة هي:

1. موقفي أنا (My Attitude)
2. سلوكي أنا (My Behavior)
3. موقف الطرف الآخر (Their Attitude)
4. سلوك الطرف الآخر (Their Behavior)

ولفهم الآلية الكامنة خلف هذه المنظومة، يجب أولًا تبيان كيف يتشكّل الموقف داخل الفرد، ولماذا قد يقود إلى سلوك ما، ثم كيف ينعكس هذا السلوك في موقف وسلوك الطرف الآخر. ففي الغالب، نحن لا ننتبه دائمًا إلى أن تعبيرنا عن موقف معيّن من خلال تصرف أو كلام يكون له تأثير فوري أو لاحق على الطرف المقابل، فيكوّن هذا الأخير موقفًا بعينه (إيجابيًا أو سلبيًا) ويترجمه إلى سلوك يتعامل به معنا، وبذلك يدخل الطرفان في حلقة تفاعلية مستمرّة.

تعريف الموقف (Attitude)

الموقف هو كل ما يحمله الفرد من أفكار ومشاعر وتصورات واتجاهات ذهنية حيال أمر ما، سواءً كان موقفًا من قضية معينة أو موقفًا من شخص بعينه. يرى علماء النفس أن الموقف يتكوّن من ثلاثة مكوّنات فرعية:

• المكوّن المعرفي (Cognitive Component): يضم الاعتقادات والقناعات والمعارف التي يمتلكها الفرد.
• المكوّن العاطفي (Affective Component): يضم المشاعر والميول العاطفية تجاه موضوع الموقف.
• المكوّن السلوكي (Behavioral Component): يضم التوجهات أو النوايا التي تحدد رد فعل الفرد المحتمل.

عندما يجتمع المكوّن المعرفي والعاطفي، تتكوّن لدينا نية سلوكية (Behavioral Intention) تقود إلى ممارسة فعلية لسلوك ما في مواقف محددة. ومن هنا تأتي أهمية الوعي بأن المعارف والقناعات والمشاعر تشكّل جذور سلوكياتنا.

تعريف السلوك (Behavior)

السلوك هو الترجمة العملية لما يحمله الفرد من أفكار ومشاعر إلى أفعال ملموسة يمكن ملاحظتها. وعادةً ما يظهر هذا السلوك من خلال لغة الجسد، أو طريقة الحديث، أو نوع القرارات التي يتّخذها الفرد في مواقف محددة. تتسم السلوكيات بالتنوع، فقد تكون لفظية أو غير لفظية، وقد تكون مباشرة أو ضمنية. والأهم في هذا السياق هو أن سلوك الشخص يُفسّر من قبل الآخرين، مما يجعلهم يشكلون موقفًا نحوه بناءً على تفسيرهم وفهمهم لما يرونه ويسمعونه منه.

كيف يعمل مربع بتاري في دورة التأثير؟

تبدأ الدورة عادةً من “موقفي” الذي قد يكون إيجابيًا أو سلبيًا تجاه حدث معين أو تجاه شخص ما. هذا الموقف يولّد مجموعة من النوايا التي تتحوّل لاحقًا إلى سلوك. على سبيل المثال، إذا كان لديّ موقف إيجابي تجاه زميل العمل، فقد أتعامل معه بطريقة أكثر ودّية وتعاونًا. بالمقابل، هذا السلوك الإيجابي سينعكس على الزميل، والذي قد يشكّل موقفًا مماثلًا (أو على الأقل أقل سلبية) نحوي، ومن ثم يترجمه في تعامله معي إلى سلوك بنّاء.

على الجانب الآخر، إذا كانت مواقفي سلبية، فسيتجلّى ذلك بشكل أو بآخر في سلوك غير متعاون أو عدائي أو متحفّظ، مما سيدفع الطرف الآخر إلى الشعور بعدم الارتياح والقيام بسلوك مضاد أو دفاعي. وهكذا ندخل في حلقة قد يصعب كسرها أحيانًا إذا رسخت المواقف والسلوكيات السلبية لفترة طويلة.

أهمية مربع بتاري في الإدارة والقيادة

تنبع أهمية نموذج مربع بتاري في الإدارة والقيادة من كونه يبيّن بوضوح كيف يمكن لموقف القائد أو المدير أن يؤثّر على جوّ العمل كله، وكيف يمكن لسلوك بسيط صادر عن القيادة أن يخلق مناخًا إيجابيًا أو سلبيًا في المؤسسة. فالمدير الذي يؤمن بقدرات فريقه سيتعامل معهم باحترام وثقة، وهذا سينعكس على سلوك الموظفين الذين سيشعرون بالتقدير، فيتشكّل لديهم موقف إيجابي تجاه المدير وتجاه المؤسسة، مما يُحفّزهم على أداء أفضل.

بالمقابل، إذا كان المدير لا يثق في موظفيه، فقد يظهر هذا الموقف في شكل إجراءات رقابية مفرطة أو غياب التفويض، مما يزرع بذور الريبة في نفوس الفريق. هذا الشعور السلبي لدى الموظفين قد يؤدي إلى ضعف الدافعية ونقص الحماس، وقد ينعكس في سلوكهم على شكل أخطاء أو مقاومة لأي مبادرة جديدة. حينئذٍ سيعتبر المدير أن ما كان يخشاه بشأن عدم جدارة الموظفين قد تحقّق، فيزداد موقفه السلبي تجاههم، وتكبر الحلقة المفرغة.

الدوافع النفسية لتشكّل المواقف

لفهم أعمق لدورة التأثير في مربع بتاري، لا بدّ من مناقشة الأسباب النفسية لتشكّل المواقف التي نحملها. فالمواقف لا تنشأ من فراغ، بل تتشكل بناءً على تفاعل مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية:

• التنشئة الاجتماعية والثقافية: يتحكّم المجتمع في غرس مجموعة من القيم والمعتقدات التي تتسرب إلينا منذ الصغر، فنكتسب مجموعة من الاتجاهات نحو العالم من حولنا.
• التجارب الحياتية: تجاربنا الشخصية تُعتبر من العوامل الرئيسية في رسم مواقفنا؛ فعندما نتعرض لمواقف معينة ونرى نتائجها، تتبلور لدينا مواقف حيالها.
• السمات الشخصية: يختلف الأفراد في سماتهم الشخصية مثل الانبساطية والانطوائية والقلق والتسامح، وهذه السمات تؤثر في تشكيل المواقف العاطفية والمعرفية.
• البيئة المحيطة: يُمكن للبيئة المادية (مكان العمل، مكان السكن)، والبيئة الاجتماعية (مجموعة الأقران، الوسط العائلي) أن تؤثر بشكل مباشر في المواقف.

تحليل ديناميكيات التأثير المتبادل

حين ننظر إلى مربع بتاري من منظور ديناميكي، نجد أنه يجسّد مفهوم “الفعل ورد الفعل” في العلاقات الإنسانية. ولفهم هذا البعد بشكل أدق، علينا أن نحلل ما يحدث حين تبدأ الحلقة من طرف واحد:

1. شعوري وموقفي: قد أكون مرهقًا وأشعر بعدم الحماس، فتتشكل لديّ قناعة بأن المهمة الماثلة أمامي صعبة جدًا.
2. سلوكي: نتيجةً لهذا الشعور، قد أتحدث بشكل سلبي أو أظهر عدم التعاون أو حتى أتجنب النقاش.
3. تأثيره على الآخرين: عندما يلاحظ زملائي في العمل هذا السلوك، فقد يشكّلون موقفًا مفاده أنني شخص “سلبي” أو “غير مهتم”، مما قد يدفعهم إلى التفاعل معي بشكل محدود.
4. سلوك الآخرين: يصبح سلوكهم أقل تعاونًا، وربما يبتعدون عني أو لا يقدّمون لي الدعم المرجو.
5. تأثيره في موقفي من جديد: عندما ألاحظ أنهم لا يتعاونون معي، قد أشعر بالاستياء وأكرر اعتقادًا سابقًا بأنهم لا يرغبون في مساعدتي، فيتفاقم موقفي السلبي وتتأكّد قناعتي.

يمكن تطبيق هذه الحلقات على أكثر من سياق، مثل العلاقات الأسرية، والزمالة في العمل، وفي المجموعات التطوعية، وفي الأندية الرياضية، وفي أي بيئة تتطلب تفاعلًا مستمرًا بين الأفراد.

علاقة مربع بتاري بالذكاء العاطفي

الذكاء العاطفي هو القدرة على التعرف على مشاعرنا ومشاعر الآخرين، وعلى إدارة هذه المشاعر بطريقة فعالة. يؤثر الذكاء العاطفي في قدرة الفرد على كسر الحلقة السلبية في مربع بتاري وتعديلها. فمن يتمتع بذكاء عاطفي عالٍ يميل إلى:

• وعي بالذات: يتأمل مشاعره وأفكاره ليفهم من أين تنبع مواقفه، ويكون أكثر انتباهًا للمؤثرات التي تدفعه إلى تبني سلوك معين.
• إدارة المشاعر: يضبط انفعلاته ويستطيع اختيار استجابة أكثر هدوءًا حتى لو كان الموقف مستفزًا، وهذا يقلل من احتمالية حدوث تصعيد سلبي.
• التعاطف: يضع نفسه في مكان الآخر، مما يساعده على فهم مواقف الآخرين وسلوكياتهم بشكل أفضل والرد عليها بطريقة بنّاءة.
• مهارات تواصل فعّالة: يُجيد التعبير عن مشاعره وأفكاره بشكل واضح ولطيف، مما يعزز التفاهم بينه وبين الآخرين ويمنع تراكم سوء الفهم.

بالتالي، عندما يملك الفرد قدرًا من الذكاء العاطفي، يكون لديه القدرة على تعطيل الحلقة السلبية قبل تفاقمها أو تعزيز الحلقة الإيجابية من خلال مواقف وسلوكيات واعية ومدروسة.

تطبيقات مربع بتاري في الحياة العملية

تظهر أهمية مربع بتاري بوضوح في عدة مجالات ومواقف عملية، منها:

1. في بيئة العمل والمؤسسات

توجد أهمية كبيرة لتطبيق مفاهيم مربع بتاري في تحسين التواصل والعلاقات الداخلية بين الموظفين والمديرين. يصبح المدير مسؤولًا أمام نفسه وأمام فريقه عن مراقبة مواقفه تجاه أداء الموظفين، والعمل على توجيهها نحو البناء والتشجيع، مما ينعكس إيجابًا على سلوكيات الفريق وعلاقاتهم الداخلية.

2. في العلاقات الأسرية

الأسرة هي أول بيئة اجتماعية نتعلّم فيها مهارات التواصل والتفاعل. وفي كثير من الأحيان، قد تتراكم المشاعر السلبية دون أن يشعر بها أحد، وتتحول إلى مواقف تؤدي إلى سلوكيات مؤذية تخلق حلقة مستمرة من الصراع. عندما يفهم أفراد الأسرة هذا النموذج، يمكنهم التعرف على جذور المشكلة وتغيير مواقفهم لوقف دائرة الخلافات.

3. في التعليم والتدريب

يستطيع المعلم استخدام نموذج مربع بتاري لفهم تصرفات الطلبة الناشئة عن مواقفهم تجاه المادة الدراسية أو تجاه المدرسة عمومًا. من خلال تعديل سلوك المعلم مع الطلاب، يمكنه المساهمة في تغيير مواقفهم أيضًا، ما يؤدي إلى رفع الحافزية وتحسين الأداء الدراسي.

4. في تطوير المهارات الشخصية

يساعد هذا النموذج الأفراد على اكتشاف العلاقة بين أفكارهم ومشاعرهم وسلوكياتهم، كما يجعلهم أكثر وعيًا بكيفية تأثير سلوكهم في الآخرين. يُستفاد من ذلك في برامج التنمية البشرية وتطوير الثقة بالنفس والمهارات التواصلية.

دور الثقافة والقيم المجتمعية في تشكيل مربع بتاري

تؤثر الثقافة والقيم المجتمعية في كيفية فهمنا وتطبيقنا لمربع بتاري، فهناك مجتمعات تُعلي من قيمة الاحترام والتقدير المتبادل، فتجد أن الأفراد يأخذون مواقف إيجابية مسبقة تُسهم في بناء حلقة من الثقة. في المقابل، هناك بيئات أكثر تنافسية أو عدائية، حيث يكون كل شخص متحفزًا للدفاع عن مصالحه، فتتولد المواقف السلبية بسرعة أكبر. من هنا، ينبغي على المنظمات والمتخصصين في الموارد البشرية أخذ العامل الثقافي في الحسبان عند تطبيق نموذج مربع بتاري في بيئة عمل متعددة الثقافات.

الجدول التالي يوضّح عناصر دورة مربع بتاري وأبرز العوامل المؤثرة

أهمية الوعي الذاتي في كسر الحلقة السلبية

الوعي الذاتي يُعدّ السلاح الأقوى في وجه أي حلقة سلبية قد تتشكل في مربع بتاري. فعندما أُدرك موقفي السلبي تجاه شخص ما أو تجاه موضوع معيّن، وأعي أن هذا الموقف السلبي قد يدفعني إلى سلوك سلبي، عندها أستطيع أخذ خطوة للوراء وإعادة تقييم أسباب هذا الموقف. هل هي مبنية على حقائق أم مجرد تصوّرات خاطئة أو تحيّزات شخصية؟ بمجرد إعادة تقييم الموقف، يمكن تغيير السلوك المصاحب له، مما يسمح بفتح فرصة لحوار بنّاء مع الطرف الآخر.

استراتيجيات تعديل المواقف والسلوك

توجد عدة استراتيجيات يمكن من خلالها تعديل المواقف السلبية، وزراعة سلوكيات بنّاءة تمكّن من كسر الحلقة المفرغة في مربع بتاري:

1. إعادة تقييم الأفكار: تحدّي المعتقدات السلبية واستبدالها بأفكار أكثر توازنًا وموضوعية.
2. تدريب التعاطف: محاولة فهم وجهة نظر الطرف الآخر ودوافعه وتقليل الأحكام المسبقة.
3. التواصل الفعّال: استخدام أساليب تواصل واضحة تحترم الطرف الآخر ولا تهاجمه، وتجنّب الاتهامات المباشرة.
4. تنمية الذكاء العاطفي: الارتقاء بالقدرة على تنظيم المشاعر والرّد عليها بهدوء.
5. تعلّم المرونة: تبنّي عقلية منفتحة لاستيعاب الاختلافات والبحث عن حلول وسط.
6. تحديد الأهداف المشتركة: التركيز على تحقيق المنافع المشتركة بدلاً من التركيز على الاختلافات الفردية.

الحلقة الإيجابية: تعزيز المواقف الإيجابية لإحداث سلوك بنّاء

مثلما يمكن أن تكون الدورة سلبية، يمكنها أيضًا أن تكون إيجابية. يبدأ الأمر عادةً بموقف ودّي أو متفائل لدى الفرد، كأن يكون لدى المدير ثقة بفريقه. يظهر هذا في سلوكه من خلال تشجيع الحوار المفتوح وتقدير الجهود المبذولة. أفراد الفريق سيشعرون بالتقدير، فيكوّنون موقفًا إيجابيًا تجاه المدير والمؤسسة، مما يترجم إلى سلوك متعاون ومنتج. المدير يرى النتيجة الإيجابية، فيتعزّز موقفه الداعم، وتستمر الحلقة في التأثير الإيجابي المتبادل.

هذا النوع من الدورات يعزز الإبداع والعمل الجماعي ويخلق بيئة مرنة وقابلة للتطوّر. من هنا تأتي أهميّة إدارة الانطباعات الأولى التي تتشكل في أذهان الآخرين عند احتكاكهم بنا، سواءً في مقابلات العمل أو اللقاءات الاجتماعية أو اللقاءات الأسرية.

الجانب الأخلاقي في نموذج مربع بتاري

لا يقتصر الموضوع على تحسين الأداء والعلاقات من وجهة نظر عملية فحسب، بل يتعدّاه إلى الجانب الأخلاقي. فعندما يكون لدينا وعي بأن سلوكنا يمكن أن يؤثر في الآخرين إيجابًا أو سلبًا، يصبح لدينا مسؤولية أخلاقية تجاه التحكم في مشاعرنا وسلوكياتنا لتجنّب إيذاء الآخرين أو إشعارهم بعدم الراحة. يحمل هذا البعد الأخلاقي بُعدًا تحفيزيًا كي نكون أناسًا أفضل ونسهم في خلق مجتمع أكثر ترابطًا.

الصراعات الجماعية وتطبيق مربع بتاري

في حالات الصراع الجماعي أو النزاع بين الفرق أو الأقسام داخل المنظمة، يلعب مربع بتاري دورًا جوهريًا في تحليل مصدر التوتّر. إذ يُمكن أن تنشأ الصراعات بسبب تراكم سوء فهم بين الفرق المختلفة، فمثلاً قد تنظر إحدى الفرق إلى فريق آخر على أنه سبب في بطء سير العمل، فيتشكل لديهم موقف سلبي، يترجمونه إلى سلوك اتهامي أو لامبالاة في التعاون. بالمقابل يشعر الفريق الآخر بالظلم أو النقص في التقدير، فيتشكل لديه هو أيضًا موقف سلبي، فينعكس في سلوك أكثر عزلة أو مقاومة للعمل المشترك. ومع الزمن تتجذّر هذه العلاقة السلبية.

هنا يمكن للمؤسسة أو وسيط الصلح التدخّل لكسر الحلقة، عبر تصحيح المعلومات الخاطئة، وعقد جلسات تواصل شفافة، وتشجيع الأطراف على التعبير عن مخاوفهم وتجاوز الأحكام المسبقة، مما يساعد على تغيير المواقف المتبادلة واستبدالها بمواقف أكثر تفهمًا وتعاونًا. وحين يتغير الموقف، يتغير معه السلوك، وتنقلب معادلة الصراع إلى تعاون.

مقارنة بين مربع بتاري وبعض النماذج السلوكية الأخرى

يوجد في علم النفس الاجتماعي العديد من النظريات والنماذج التي تسعى لتفسير العلاقة بين المعتقدات والسلوك، مثل نظرية العمل المخطط (Theory of Planned Behavior) ونظرية التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance Theory). يتميز مربع بتاري عن هذه النظريات بكونه يُركّز بوضوح على التفاعل بين طرفين أو أكثر، وليس فقط تفاعل الفرد مع معتقداته الداخلية. إذ يُبرز كيف يتواصل هذا الفرد مع البيئة الخارجية، خاصةً الأفراد المحيطين به، وكيف يتشكّل موقف كل طرف بناءً على سلوك الطرف الآخر.

بينما في نظرية العمل المخطط، يتم التركيز على نوايا الفرد المسيّرة لسلوكه وتصوراته عن قدرته على التحكم بهذا السلوك. وفي التنافر المعرفي، يتم التركيز على ما يحدث داخل الفرد عندما تتناقض أفكاره مع أفعاله. في مربع بتاري نجد التركيز يتوجه نحو الحلقة التفاعلية الاجتماعية، فيزيد من وعي الأفراد بكيفية صناعة المواقف المتبادلة وتصحيحها.

علاقة مربع بتاري بتعزيز ثقافة الحوار والانفتاح

عند النظر إلى المجتمعات التي يسود فيها الحوار والانفتاح وقبول الرأي الآخر، نجد أن مستويات النزاعات السلبية فيها أقل، حيث يكون الناس أكثر استعدادًا لفهم الآخر والتفاعل معه بطريقة صحّية. ويؤكد مربع بتاري أهمية هذا الجانب؛ لأن الانفتاح على الآخر واحترام اختلافاته هو ما يولّد مواقف إيجابية تُسهم في بناء الثقة بدلاً من هدمها. لهذا السبب، فإن أغلب برامج التنمية البشرية وتطوير المنظمات تركز على تعزيز مهارات الاتصال والحوار، لما لها من دور أساسي في منع التشوهات التي تطرأ على المواقف وتخلق حلقة سلبية.

أمثلة واقعية لتطبيق مربع بتاري

1. سيناريو في مكان العمل

لنفرض أن موظفًا جديدًا انضمّ إلى قسم المبيعات. يحمل هذا الموظف موقفًا إيجابيًا حيال فريق العمل؛ فهو متفائل بأن لديه فريقًا داعمًا. حين يتفاعل مع زملائه، يظهر هذا التفاؤل في سلوكه: يشاركهم الآراء، يبادر بالمساعدة، ويتحدث بلغة لطيفة. الزملاء، في المقابل، يُشكّلون موقفًا إيجابيًا نحوه، ويسهل اندماجه معهم. تنعكس مواقفهم الإيجابية بسلوك تعاون ودعم متبادل. مع الوقت تتعزز علاقة الموظف الجديد بزملائه، ويصبحون أكثر استعدادًا لحل المشكلات معًا. هذا مثال على الحلقة الإيجابية.

2. سيناريو في إطار أسري

في منزل معين، قد يشعر أحد الأفراد بالإهمال، فيكوّن موقفًا سلبيًا تجاه بقية أفراد الأسرة. يظهر هذا الشعور في سلوك عصبي أو انتقادي شديد. بقية أفراد الأسرة يشعرون بالهجوم أو بعدم الارتياح، فيكوّنون بدورهم موقفًا سلبيًا يترجمونه إلى سلوك بارد أو عدائي تجاه ذلك الفرد. يتعزز شعور الإهمال لديه أكثر ويستمر في التصرف بشكل سلبي، لتتسع دائرة الخلاف. من خلال فهم آليات مربع بتاري، يمكن للأطراف التوقف ومراجعة المواقف، والبحث عن طريقة لإعادة بناء الثقة والمشاعر الإيجابية.

3. سيناريو في التعليم

معلم يفترض أن الطلاب كسالى وغير مهتمين. قد يتجلى هذا الموقف في سلوك غير متحمس للتدريس، أو عدم بذل جهد كافٍ في شرح المادة. الطلاب يلاحظون هذا الفتور، فيستنتجون أن المعلم لا يكترث لأمرهم، فيكوّنون موقفًا سلبيًا نحوه، ويقل اهتمامهم بالمادة. يؤدي هذا إلى تدنّي الأداء الدراسي، مما يعزّز اعتقاد المعلم بأنهم غير قادرين على التعلّم. هنا يتضح كيف تؤدي المواقف والسلوكيات المتبادلة إلى تكريس حلقة سلبية. ولكن إذا غيّر المعلم موقفه وتصرّف باهتمام أكبر، فقد يبدأ الطلاب تدريجيًا بتغيير موقفهم، وتتحسن بذلك النتائج.

دور الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل المواقف

لا يمكن إغفال مدى تأثير وسائل الإعلام التقليدية، ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، في تشكيل مواقف الأفراد تجاه الأحداث والأشخاص والمجتمعات. يُمكن لحملة إعلامية سلبية أن تزرع مواقف مُسبقة في أذهان الجمهور، يترجمونها لاحقًا في سلوكيات قد تكون معادية لفئة معينة. من هنا تبرز ضرورة الوعي بما نتعرّض له من معلومات، وأن نفهم أن هذه المعلومات قد تُحرك مواقفنا على نحوٍ يجعلنا نتصرف بطرق قد نندم عليها لاحقًا.

على الجانب الآخر، يمكن لوسائل الإعلام أن تُعزّز أيضًا المواقف الإيجابية، كإبراز نماذج النجاح والتعاون والتعايش، مما يشجع الجمهور على تبنّي مواقف وسلوكيات إيجابية تجاه فكرة معيّنة أو مجتمع معيّن. هكذا فإن الدور المزدوج للإعلام في تغذية المواقف أو تصحيحها يمكن أن يخلق دائرة إيجابية أو سلبية وفق طبيعة التغطية الإعلامية.

كيفية توظيف مربع بتاري في بناء فرق عمل فعّالة

من المفيد للقادة والمديرين الذين يرغبون في تشكيل فرق عمل ناجحة أن يتبنّوا مجموعة من الخطوات المنبثقة من مفهوم مربع بتاري:

1. تحديد الرؤية المشتركة: حين يعمل الجميع على تحقيق هدف واضح ومشترك، تقل فرص التوتر ويزداد التقارب.
2. التقييم المستمر للمواقف: إتاحة الفرصة لأفراد الفريق لمناقشة مواقفهم بكل شفافية خلال الاجتماعات الدورية.
3. تشجيع التغذية الراجعة الإيجابية: توجيه الشكر والتقدير للإنجازات مهما كانت صغيرة، ما يدعم المواقف الإيجابية ويحفز الآخرين.
4. التصرّف كنموذج يُحتذى: على القائد أن يُظهر بنفسه المواقف والسلوكيات الإيجابية، لأن الفريق سيتعلم منه.
5. مساعدة الأعضاء على تطوير مهارات التواصل: توفير دورات تدريبية أو ورش عمل في مجال التواصل وحل المشكلات بشكل جماعي.
6. التدخل السريع عند ظهور سلوكيات سلبية: عدم السماح بتفاقم التوتر أو الصراعات من دون تدخّل واعٍ.

بهذه الخطوات، يُصبح نموذج مربع بتاري بمثابة دليل عملي يُرشد القادة إلى كيفية إدارة العلاقات الإنسانية بين أعضاء الفريق؛ بهدف بناء بيئة عمَل متناغمة ومثمرة.

تقنيات لتجاوز المعتقدات المحدودة وتبني مواقف جديدة

في بعض الأحيان، قد تكون المعتقدات المحدودة عائقًا أمام تطوير مواقفنا الإيجابية. وفيما يلي بعض التقنيات المفيدة لتجاوز هذه المعتقدات:

• العلاج المعرفي السلوكي (CBT): يُستخدم لتحدي الأفكار السلبية وغير المنطقية، واستبدالها بأفكار أكثر واقعية وإيجابية.
• تقنية الاسترخاء الذهني: تؤدي ممارسات مثل التأمل واليوغا إلى تهدئة الذهن وتحريره من التوتر، مما يُسهّل إعادة تقييم المواقف.
• التوكيدات الإيجابية: إعادة برمجة الدماغ عبر تكرار عبارات إيجابية، مثل “أستطيع التعامل مع الصعوبات بسهولة”، مما يساعد في تعزيز الثقة بالنفس.
• المرونة المعرفية: التدرب على التفكير من زوايا مختلفة حول نفس الموقف، وعدم الانحصار في زاوية وحيدة.

تلعب هذه التقنيات دورًا كبيرًا في كسر الحلقة السلبية، إذ تحول دون ترسيخ الموقف السلبي في عقلية الفرد، وتمكّن من تبنّي موقف بديل يعزّز السلوك البنّاء.

مربع بتاري وصنع القرار الجماعي

يتعرض الأفراد داخل المجموعات إلى العديد من المواقف عند اتخاذ قرارات مصيرية، مثل إطلاق منتج جديد أو اعتماد استراتيجية معينة. في هذه اللحظات، يكون تبادل الآراء شديد الحساسية، وقد تتكوّن مواقف سلبية تجاه رأي شخص أو مجموعة ما إذا شعرت مجموعة أخرى بأن رأيها لم يحظَ بالاهتمام. حين يتطور هذا الإحساس إلى سلوك مقاطع أو معرقل، يصعب التوصل إلى اتفاق. من خلال الوعي بمربع بتاري، يمكن للمدير أو قائد المجموعة مراقبة ديناميكيات النقاش وتوجيهها:

1. منح الفرصة للجميع للتعبير: التأكد من أن كل صوت مسموع يُشعر الأفراد بالتقدير ويمنع تكوين مواقف سلبية.
2. إظهار الاحترام: يتعين على المشاركين تجنب النقد الشخصي والتركيز على الأفكار.
3. إدارة الخلاف: استخدام منهجية واضحة لحل الخلاف والنزاعات، مثل الجدال المنطقي المبني على البيانات.
4. تحفيز روح الفريق: تشجيع المشاركين على تذكّر الهدف المشترك، مما يعزز مواقف إيجابية.

بهذه المنهجية، تتحول حلقة التفاعل إلى دائرة إيجابية تدفع نحو صنع قرار توافقي، وتزيد من رضا الأعضاء عن المخرجات النهائية.

الآثار طويلة المدى للحلقات السلبية

حين تستمر دائرة سلبية لفترة طويلة، قد يكون من الصعب جدًا كسرها، حيث تتجذر المواقف السلبية في عقلية الأطراف المعنية. ينتج عن ذلك تبعات خطيرة:

• فقدان الثقة: يصبح من الصعب إعادة بناء الثقة بين الأطراف إذا تراكمت المواقف السلبية.
• الإحباط وقلة الدافعية: يشعر الأفراد بالإحباط واللامبالاة، ويفتقرون إلى الحافز للاستمرار في تحسين الأداء.
• تخريب العلاقات: في بيئات العمل، قد ترتفع معدلات الاستقالات أو تزداد الخلافات، وفي الأسرة قد تصل إلى الانفصال.
• تأثر الصحة النفسية: تؤدي المواقف السلبية المستمرة إلى توتر وضغط نفسي واجتماعي.

لهذا السبب، من الأهمية بمكان كشف الدائرة السلبية مبكرًا، والتدخل عبر تغيير المواقف والسلوكيات بتبنّي طرق فعّالة ومنهجية في التعامل.

تقنيات لمراقبة وتعديل مربع بتاري بشكل يومي

يمكن للأفراد والمؤسسات اعتماد تقنيات بسيطة تساعد على رصد وتحسين آلية مربع بتاري على نحو مستمر:

1. تسجيل اليوميات: كتابة المشاعر والمواقف والسلوكيات يوميًا، لتحليل أنماط التفاعل مع الآخرين واكتشاف مصدر التوتر أو الخلل.
2. الاجتماعات المنتظمة: عقد اجتماعات قصيرة مع الفريق لمناقشة أي خلافات أو سوء فهم قبل أن تكبر.
3. التقييم الذاتي المستمر: سؤال النفس قبل أي تفاعل: “ما موقفي الآن؟ وكيف يمكن أن يؤثر ذلك في سلوكي؟”
4. التدريب على تقنيات حل المشكلات: مثل عصف الأفكار (Brainstorming) وتوليد بدائل متعددة قبل اتخاذ مواقف متطرفة.
5. الاستعانة بمستشار أو مدرب سلوكي: قد يُفيد في حالات الخلافات الطويلة الأمد، لكونه طرفًا محايدًا يساعد على كسر الحلقة.

مستقبل استخدام مربع بتاري في تنمية المجتمعات

يتّجه العالم نحو مزيد من التعقيد في العلاقات الاجتماعية بسبب التطور التكنولوجي الهائل وانتشار العولمة، مما يجعل من الضروري تعميق فهمنا للتواصل البشري. في هذا السياق، يمكن لمربع بتاري أن يلعب دورًا مضاعفًا في المستقبل، إذ يساعد الأفراد والمنظمات على التعامل مع التنوّع الثقافي واللغوي، ويحدّ من الصراعات الناشئة عن سوء الفهم. كما يُتوقع أن تتبنّى المؤسسات التعليمية تدريب الطلبة على هذا النموذج ضمن مناهج تنمية المهارات الاجتماعية والقيادية.

قد نرى في السنوات القادمة برامج أو منصات إلكترونية تفاعلية تعتمد على “ذكاء اصطناعي” لتحليل النصوص والتعليقات المتبادلة بين الأفراد في بيئات العمل أو حتى في المنزل، واقتراح تدخلات أو نصائح للتصحيح قبل اتساع دائرة الخلاف. ومع ذلك، يبقى الأساس هو وعي الإنسان وإرادته الحقيقية في تطوير نفسه وفهم الآخر.

المزيد من المعلومات

مربع بتاري، المعروف أيضًا باسم “The Betari Box”، هو مفهوم يستخدم في مجالات الإدارة والعلاقات الإنسانية لفهم الارتباط بين المواقف والسلوك. تم تطوير هذا المفهوم من قبل الدكتور إلياس بتاري، وهو عالم نفس إسرائيلي معروف بأبحاثه في مجال التنمية البشرية وتحليل السلوك.

يقوم مربع بتاري على فكرة بسيطة ولكن قوية: تأثير المواقف على السلوك. يعتمد هذا المفهوم على افتراض أن المواقف التي يتعرض لها الأفراد تؤثر بشكل مباشر على سلوكهم. وعلى الرغم من أن هذا الافتراض قد يبدو واضحًا، إلا أن مربع بتاري يوضح كيفية تحديد هذا التأثير بشكل أكبر وكيف يمكن تغييره لصالح النتائج الإيجابية.

في الجزء الأساسي من المربع، يُظهر بتاري العلاقة بين الموقف والشعور والفكر والسلوك. عندما يواجه الفرد موقفًا معينًا، يتأثر شعوره بذلك الموقف، وهذا الشعور يؤثر بدوره على أفكاره ومعتقداته حول الموقف، وفي النهاية يؤثر على سلوكه.

على سبيل المثال، إذا كان شخص ما يواجه موقفًا صعبًا في العمل، مثل تلقي انتقادات حادة من رئيسه، فقد يشعر بالإحباط أو الغضب. هذا الشعور قد يؤثر على أفكاره، مثل “لن يفهم أحد مجهودي”، وبالتالي قد يؤدي إلى سلوك سلبي مثل الانسحاب من المهام أو العمل بشكل غير فعال.

يمكن تحويل هذا الدوران السلبي إلى دوران إيجابي من خلال تغيير أحد عناصر المربع. على سبيل المثال، يمكن للفرد تغيير شعوره تجاه الموقف من خلال التفكير بطرق للتعامل مع التحديات بشكل أكثر فعالية. وبتالي، سيؤدي هذا التغيير في الشعور إلى تغيير في الأفكار وفي النهاية في السلوك.

باختصار، يسلط مربع بتاري الضوء على كيفية تأثير المواقف على سلوك الأفراد ويعطي إطارًا لفهم هذه العلاقة وتغييرها لتحقيق نتائج أفضل.