فن العتاب بين الأصدقاء

كيف تعاتب صديقك؟

يُعدّ العتاب فنًا دقيقًا وعملية إنسانية حساسة تستهدف الحفاظ على العلاقات وليس تقويضها، وهو وسيلة حضارية للتعبير عن مشاعر الاستياء أو الانزعاج دون أن يتحول الأمر إلى خصام أو قطيعة. وفي العلاقات الإنسانية، وخصوصًا الصداقة، تبرز أهمية العتاب كجسر للتفاهم وتجديد الروابط وتعزيز الثقة. ولكن السؤال الجوهري الذي يتبادر إلى الذهن هو: كيف نعاتب الصديق بشكل لا يُفسد الودّ ولا يجرح الكرامة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب تَفَحُّصَ الأبعاد النفسية والاجتماعية للعلاقة، وفهم طبيعة العتاب البناء، ومعرفة التوقيت والأسلوب والهدف.

أهمية العتاب في الصداقة

العتاب ليس دليلًا على ضعف العلاقة، بل هو أحد أعمدتها. فالصديق الذي لا يهمك أمره لن تشعر بالحاجة لعتابه، وإنما ستكتفي بتجاهله أو الانسحاب بهدوء من حياته. لكن حين يخطئ صديق مقرب، ويؤذيك دون قصد أو يتسبب في خذلان أو خيبة أمل، فإن العتاب يصبح وسيلة للتعبير عن الألم وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح. العتاب الحقيقي لا يكون لتصفية الحسابات، بل لتصفية النفوس، وإزالة ما قد تراكم فيها من مشاعر سلبية قد تُضعف أواصر العلاقة أو تُحدث تصدعات غير مرئية.

شروط العتاب الناجح

لكي يكون العتاب فعّالًا وبنّاءً، لا بد من توفر مجموعة من الشروط النفسية والسلوكية والزمانية، منها:

1. صفاء النية: يجب أن تكون نية العاتب صافية ونابعة من محبة خالصة للصديق، ومن رغبة صادقة في تقويم العلاقة لا تدميرها.

2. اختيار الوقت المناسب: لا يُنصح بممارسة العتاب في لحظة الغضب أو تحت وطأة التوتر. فالعقل في تلك اللحظات لا يكون في حالة اتزان تسمح بالحوار البنّاء، وقد يتحول الحديث إلى جدال عقيم.

3. الحديث على انفراد: من قواعد الذوق واللباقة أن يُعاتب الصديق في جلسة خاصة لا على الملأ، لأن العتاب العلني قد يُفهم على أنه فضيحة أو إساءة متعمدة.

4. تحديد السلوك وليس الشخصية: يجب توجيه العتاب إلى الفعل الذي بدر من الصديق، وليس إلى شخصيته ككل. فمن الخطأ القول: “أنت شخص أناني”، والصحيح أن نقول: “تصرفك الأخير بدا لي أنانيًا”.

5. الابتعاد عن التهويل والمبالغة: لا يجب تضخيم الخطأ ولا تحميله أبعادًا لم تكن مقصودة. فالهدف ليس التشهير بل التفاهم.

6. الاستماع والانصات: العتاب الناجح يتطلب الإصغاء للطرف الآخر، وإتاحة المجال له لتوضيح وجهة نظره والدفاع عن نفسه إن لزم الأمر.

7. إشاعة جو من الود: البدء بكلمات تُطمئن الطرف الآخر، مثل: “لأنك عزيز عليّ.. أتكلم معك”، أو “ما كنت لأعاتبك لولا مكانتك في قلبي”، تُساهم في تهدئة النفوس وتليين القلوب.

أشكال العتاب وأساليبه

العتاب ليس أسلوبًا واحدًا، بل تتعدد أشكاله بحسب طبيعة العلاقة والموقف ونمط شخصية الصديق. من بين هذه الأساليب:

• العتاب المباشر: وهو ما يكون عبر مواجهة هادئة وواضحة، حيث يُعبّر الشخص عن مشاعره دون لف أو دوران. يتميز بالوضوح والصدق، لكنه يتطلب شجاعة ولباقة في آنٍ معًا.

• العتاب غير المباشر: يستخدم هذا الأسلوب من قبل الأشخاص الذين يتفادون المواجهة، فيُفضلون التعبير عن مشاعرهم من خلال رسائل مكتوبة، أو تلميحات، أو سرد قصص ذات مغزى.

• العتاب بالإيماءات: في بعض الأحيان يكون الصمت، أو النظرة المعاتبة، أو الامتناع المؤقت عن التواصل، وسيلة للتعبير عن الانزعاج، لكن ينبغي استخدام هذا الأسلوب بحذر لأنه قد يُساء فهمه.

• العتاب الفكاهي: يُستخدم عندما تكون العلاقة قوية جدًا، ويُفضل المزاح لتخفيف التوتر، لكن مع الانتباه إلى أن لا يتحول العتاب إلى سخرية.

العتاب في ضوء الثقافة الاجتماعية

الثقافات الإنسانية تُحدِّد بدرجة كبيرة أسلوب العتاب المقبول. ففي المجتمعات العربية، مثلًا، تتسم العلاقات الودية بشيء من الحساسية والمكانة الاجتماعية، لذا فإن العتاب يجب أن يكون مقنّنًا ومحسوبًا، بحيث لا يُفسّر كإهانة أو تقليل من المقام. كما أن العتاب قد يُستحب أن يكون بلغة عاطفية تدعو إلى الصلح والتراحم بدلًا من العبارات الجافة.

الآثار النفسية للعتاب

العتاب الصحي يؤثر نفسيًا بشكل إيجابي على الطرفين. فهو:

• يمنع تراكم المشاعر السلبية التي قد تؤدي إلى الانفجار لاحقًا.

• يعزز من الشعور بالأهمية لدى الصديق، حين يشعر أن أخطاءه لم تمر دون ملاحظة، ولكن قُوبلت باهتمام ورغبة في الإصلاح.

• يفتح آفاقًا جديدة للتفاهم، ويزيد من نضج العلاقة ويقويها.

• يرسخ مبدأ الشفافية والصدق في التعامل.

لكن في حال تم العتاب بشكل خاطئ، قد يؤدي إلى نتائج عكسية مثل:

• إحداث شرخ في العلاقة بسبب الأسلوب الفظ أو التوقيت الخاطئ.

• خلق مشاعر دفاعية لدى الطرف الآخر تجعله يبرر أفعاله ويهمل الاستماع.

• تدمير الثقة في حال تم تحميل الصديق ما لم يقصده، أو تم التقليل من قيمته.

العتاب في ظل النضج العاطفي

كلما نضج الإنسان نفسيًا وعاطفيًا، كلما صار قادرًا على إدارة عتابه بشكل أكثر فاعلية. النضج لا يعني كتمان المشاعر، بل القدرة على التعبير عنها بشكل متزن. العتاب الراقي هو الذي يُغلفه الحب، ويكسوه الاحترام، ويستهدف الوضوح دون إيذاء. فالعلاقات الحقيقية لا تُقاس بخلوها من الخلافات، بل بطريقة إدارتها لهذه الخلافات.

فنون الكلام أثناء العتاب

الكلمات التي تُستخدم في العتاب لها مفعول كبير في تحديد مسار الحديث. الكلمات الإيجابية والمشاعر الصادقة تُخفف من قسوة الموقف، وتفتح باب الحوار:

• استخدام ضمير “أنا” بدلًا من “أنت” يُجنِّب الاتهام، كأن نقول: “أنا شعرت بالخذلان حين لم تُساندني”، بدلًا من: “أنت خذلتني”.

• استعمال كلمات تُظهر الاحترام والتقدير مثل: “أقدّر صداقتنا”، “أثق بك”، يُمهّد الجو قبل الدخول في صلب الموضوع.

• تجنّب كلمات جارحة أو أسلوب تهكمي أو عبارات فيها تذكير بالماضي بشكل هجومي.

متى يجب ألا نعاتب؟

رغم أهمية العتاب، إلا أن هناك حالات يكون فيها التجاهل أو الصمت هو الأسلم:

• إذا كان الصديق مريضًا نفسيًا أو يمرّ بأزمة عاطفية أو اجتماعية قد تُفقده القدرة على التفاعل بعقلانية.

• عندما نُدرك أن العتاب لن يجدي لأن الشخص يُكرر نفس الأذى ولا يُبدي أي رغبة في التغيير.

• إذا كان الخطأ طفيفًا أو ناتجًا عن سوء تفاهم بسيط يمكن تجاوزه.

• عندما تكون العلاقة في طور التآكل، والعتاب لم يعد وسيلة للإصلاح، بل وسيلة لتأخير الانفصال.

بين العتاب والغفران

العتاب في جوهره لا ينفصل عن قيمة الغفران. فبعد أن يُعاتب الإنسان صديقه، ينبغي أن يُغلق الملف ويمنحه الفرصة لاستعادة الثقة والمودة. لا معنى لعتاب يتبعه تذكير دائم بالخطأ، أو احتفاظ داخلي بالألم. فالغفران هو الامتداد الطبيعي للعتاب الناضج، وهو مؤشر على عمق المحبة والرغبة في استمرار العلاقة.

الخلاصة

عتاب الصديق هو فن من فنون الحوار العاطفي والاجتماعي، يتطلب توازنًا دقيقًا بين التعبير عن المشاعر، والحفاظ على الاحترام المتبادل، والحرص على استمرارية العلاقة. إنه ليس شكوى، بل مناشدة، وليس هجومًا، بل تصحيح مسار. العتاب الناضج لا يجرح، بل يرمم، ولا يفرّق، بل يُقرّب. وحين نُتقن هذا الفن، نصبح أكثر قدرة على بناء صداقات متينة، وصيانة أرواحنا من التآكل الداخلي.

المراجع:

1. د. طارق الحبيب، العتاب وأثره في العلاقات الإنسانية، دار العلم للنشر، 2018.

2. ستيفن كوفي، العادات السبع للناس الأكثر فعالية، مكتبة جرير، 2005.