في نهاية الأفق يستلقي المجهول الرابض، كالكوكب الساكن في أعماق الكون، حاملاً معه رموز الأزل والأبد. إنه الهاجس الذي ألهم الفنان التشكيلي الرائد محمود سعيد، حيث جسد في لوحاته هذا المروع الساكن الذي يتأمل في عمق كل ما يحيط بالأرض.
لم يكتفِ سعيد بمجرد النظر إلى الأفق، بل نشر أقدامه في أعماق الأرض، انغمس في موسيقى الكون وتأمل في وجوه البشر وحركتهم في رحلتهم الحياتية. كل ذلك كان يتسلل إلى لوحاته، التي تحمل في طياتها لحظات الضوء والظل، تلك اللحظات التي يلتقط فيها الفنان لحظات الحياة الزاهية ويتأمل فيها حدود الموت.
في عالم “سعيد”، تتلاقى التناقضات وتتناغم، حيث تتقاذف المادة والروح، وتلتقي بهجة الحياة بقسوة الموت، وتتلاشى حدود الفرح والأسى. تندمج هذه التناقضات في لوحاته بفضل حوارات الضوء والظلال، التي ترسم لوحة حية ومعبرة.
تتجلى فلسفة البحر في أعمال محمود سعيد، حيث يأخذنا الفنان في رحلة فلسفية تمتد من حركة الأمواج والمد والجزر إلى لانهائية البحر وجمال الأفق. يعتبر البحر مصدر إلهام له، حيث تنبع أعماقه اللانهائية من حكايات الزمان والمكان، وتتجسد هذه الروحانية في لوحاته كمرسم يسجل لحظات اللقاء بين المياه ورمال الشاطئ.
تعكس لوحات “سعيد” محاولته المستميتة لمواجهة الفناء والبحث عن الخالد. تمتد لوحاته كأمتداد للتماثيل المصرية القديمة، حيث يسعى الفنان لمقاومة الزمن وتجاوزه من خلال بناء لوحاته على دقة النسب وتوازن الكتل. إن التشابك بين فن “سعيد” والمنحوتات المصرية يظهر بوضوح في الكثافة النحتية والتماثلات التي تشكل لوحاته.
تتجلى الرؤى الأسطورية في لوحة “الدعوة إلى السفر”، حيث يمزج سعيد بين الواقعية والرمزية. تظهر وجوهًا أسطورية تدعونا إلى رحلة عبر الزمن، تحمل في طياتها أشعة مجهولة تحلق بنا في رؤى أسطورية.
باختصار، يعكس فن محمود سعيد تعبيرًا عميقًا عن التناقضات الحياتية والروحانية، حيث يستمد إلهامه من أعماق الكون وتاريخ مصر العريق، محاولًا مقاومة الفناء وتسجيل لحظات الأبدية في لوحاته الممتدة.
المزيد من المعلومات
في مجمل فنه، يظهر أن “محمود سعيد” قد تأثر بالعديد من التيارات الفنية، ومن بينها التأثير البارز للفن التشكيلي التقليدي المصري، وخاصةً المنحوتات الفرعونية القديمة. يمكن رؤية هذا التأثير في استخدامه للأشكال الهندسية والتماثيل الأنثوية ذات الوجوه القوية، مما يمنح لوحاته خصوصية وتميزًا فنيًا.
تعد لوحات “محمود سعيد” تجسيدًا للحياة اليومية في مصر، حيث يركز على المش scènes de vie” (لحظات من الحياة)، مستخدمًا لغة فنية غنية بالتفاصيل والألوان. يُظهر في لوحاته الصيادين والمستحمين والدروايش، مستخدمًا إحساسه بالحركة والحياة.
لقد شغل “محمود سعيد” أيضًا منصبًا بارزًا في مجتمعه كأستاذ جامعي وكان له تأثير كبير على الجيل الجديد من الفنانين في مصر. كما أنه شارك في تأسيس جمعية الفنانين التشكيليين المصريين، مما يبرز دوره في تعزيز المشهد الفني في بلاده.
في إطار تطور فنونه، قام “سعيد” بتجريب أساليب مختلفة على مر الزمن، مما أدى إلى تطور فنه وتنوعه. وفي الفترة الأخيرة من حياته، ظهر تأثير الطابع الصوفي في أعماله، حيث اهتم بتجسيد البعد الروحاني للإنسان وعلاقته مع الكون.
في الختام، يظل “محمود سعيد” رمزًا للفن التشكيلي المصري الحديث، حيث جسد في أعماله تجربة فنية غنية، مستلهمًا من تراثه الثقافي ومتأثرًا بتيارات فنية عالمية، مما أثر على الفن في مصر وخلق إرثًا فنيًا يتجاوز الزمن.