فقه الصيام: تأصيل وتجديد

تيسير الفقه (فقه الصيام) للقرضاوي: دراسة معمقة في فقه العبادة وأبعاده المعاصرة

يعد كتاب تيسير الفقه: فقه الصيام للدكتور يوسف القرضاوي أحد أبرز المؤلفات المعاصرة في مجال فقه العبادات، إذ يمثّل نموذجًا تطبيقيًا على منهجه المقاصدي التجديدي في الفقه، ويُعالج مسائل الصيام بأسلوب علمي رصين يجمع بين الدليل الشرعي والوعي الواقعي، بين النقل الموثوق والعقل المنضبط. يأتي هذا الكتاب ضمن سلسلة كتب “تيسير الفقه” التي عكف القرضاوي على تأليفها لتقديم الفقه الإسلامي في صورة ميسرة، تخاطب المسلم المعاصر وتراعي التحديات الفقهية التي يواجهها في عالم متغير.

يتميز هذا العمل بجمعه بين عمق المضمون وسلاسة العرض، فهو ليس مجرد تلخيص لأحكام الصيام، بل يمثل مقاربة فكرية شاملة تتناول هذا الركن العظيم من أركان الإسلام من حيث فلسفته التشريعية، وحِكمه التعبدية، وتطبيقاته العملية في السياقات الفردية والاجتماعية.

التمهيد المنهجي: فقه الصيام بين العبادة والمعاملة

يبدأ القرضاوي كتابه بتمهيد منهجي يوضح فيه أن فقه الصيام لا ينبغي أن يُفهم فقط في حدود المسائل الفقهية الظاهرة كالإمساك عن الطعام والشراب، بل إن للصيام بعدًا أخلاقيًا وروحيًا عميقًا يُسهم في تهذيب النفس وتزكيتها. ينطلق القرضاوي من هذا الأساس ليركز على المقاصد الشرعية الكبرى التي تحققها عبادة الصيام، وعلى رأسها تحقيق التقوى، وهو المعنى الذي أكّده القرآن الكريم في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [البقرة: 183].

يؤكد القرضاوي أن الاقتصار على الجوانب الشكلية للصيام يفرغه من محتواه التربوي، في حين أن الصيام الحقيقي هو الذي يقترن بامتناع الجوارح عن المعاصي، والقلب عن الأحقاد، واللسان عن الغيبة، والنية عن الرياء.

الأحكام العامة للصيام

يعرض القرضاوي في القسم الأول من الكتاب الأحكام العامة للصيام، ويبدأ بتحديد معنى الصيام في اللغة والاصطلاح، ثم ينتقل إلى الحديث عن مشروعيته في الإسلام، مستندًا إلى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية المتواترة، كما يناقش حكمته وأهدافه.

يشير إلى أن الصيام فُرض في السنة الثانية للهجرة، ويعتبر من أكثر العبادات تأثيرًا في الحياة الفردية والاجتماعية، ويتناول بتفصيل شروط وجوب الصيام كالإسلام، والبلوغ، والعقل، والقدرة، والإقامة.

وفي سياق الحديث عن أنواع الصيام، يفرّق القرضاوي بين الصيام الواجب (كصيام رمضان، والنذر، والكفارات) والصيام المستحب (كصيام يوم عرفة، وعاشوراء، وصيام الاثنين والخميس)، مبينًا فضائل كل منها، ومستندًا إلى الأحاديث الصحيحة.

آداب الصيام ومستحباته

يتعمق المؤلف في عرض الآداب المرتبطة بالصيام، والتي تعزز من أثره الروحي والسلوكي. من أبرز هذه الآداب:

• السحور: ويذكر أنه من السنن المؤكدة، وأن في تأخيره بركة كما ورد في الحديث الشريف.

• تعجيل الفطر: ويستشهد بما ورد عن النبي ﷺ: “لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر”.

• الدعاء عند الإفطار: ويورد صيغ الأدعية المأثورة عن النبي ﷺ.

• كثرة التلاوة والذكر والصدقة: باعتبار رمضان شهر القرآن والخير والرحمة.

• الاجتهاد في القيام والاعتكاف: وخاصة في العشر الأواخر من رمضان، حيث يكثر الحديث عن فضل ليلة القدر.

يتناول كذلك الجوانب النفسية والاجتماعية للصيام، فيشير إلى أن الصائم الحق هو من يصون لسانه وجوارحه، ويتجنب الخصام والرفث، ويحرص على الإصلاح الاجتماعي وتعزيز روح التكافل.

المفطرات ومسائلها الفقهية المعاصرة

يعرض القرضاوي جملة المفطرات التي تفسد الصيام، ويعتمد على منهج المقارنة بين المذاهب الأربعة، مع ترجيح ما يراه أيسر وأقرب للمقصد الشرعي. من المفطرات التي يناقشها:

• الأكل والشرب عمدًا.

• الجماع.

• القيء عمدًا.

• الحجامة (ويفصّل القول فيها بناءً على اختلاف الروايات).

• الحقن المغذية.

• التبرع بالدم.

• استعمال بخاخ الربو.

في هذا السياق، يميّز القرضاوي بين المفطرات المنصوص عليها والمفطرات الاجتهادية، ويولي اهتمامًا خاصًا للمستجدات الطبية المعاصرة التي لم تكن موجودة في عصر الفقهاء القدامى، مما يجعل من الكتاب مرجعًا مهمًا في فقه النوازل.

فقه الصيام للمريض والمسافر

يفرد المؤلف فصلًا مفصلًا لأحكام الصيام بالنسبة للمريض والمسافر، ويعرض فيه أنواع المرض التي يُباح فيها الفطر، مثل المرض المزمن الذي لا يُرجى برؤه، أو الحالات التي يسبب فيها الصيام ضررًا جسيمًا.

كذلك يشرح أحكام الإفطار للمسافر، مبينًا شروط السفر المبيح للفطر، والمسافة المطلوبة، ومدة الإقامة، ويورد أقوال الفقهاء في هذه المسائل، ثم يرجّح الرأي الذي يتماشى مع مقصد التيسير ورفع الحرج.

يشير إلى أن الأصل في هذا الباب هو قوله تعالى: “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” [البقرة: 185]، ويؤكد أن الرخصة ركن من أركان الشريعة، لا تقل أهمية عن العزيمة.

صيام المرأة: أحكام خاصة

يتناول القرضاوي أحكام الصيام المتعلقة بالمرأة، مثل:

• الصيام أثناء الحيض والنفاس: ويبين عدم صحة الصيام في هذه الحالات وضرورة القضاء.

• حكم استعمال حبوب تأخير الدورة في رمضان.

• الصيام أثناء الحمل والإرضاع: ويعرض تفصيلًا الأحوال التي يجوز فيها الإفطار، والفرق بين الفتوى للمراة نفسها، أو للجنين، أو لهما معًا.

• حكم نزول الدم غير المنتظم.

يؤكد على أن الأصل هو التيسير، وأن الشريعة راعت اختلاف طبيعة المرأة البيولوجية، ووفّرت لها أحكامًا مرنة تراعي حالتها الصحية والنفسية.

فقه القضاء والكفارات

يعرض الكتاب تفصيلًا دقيقًا لأحكام قضاء الصيام، ومن يجب عليه القضاء، والمفاضلة بين التعجيل والتأخير، والضوابط الزمنية لقضائه. كما يناقش أنواع الكفارات، متى تجب، ومتى تسقط، وعلى من تقع، ويشرح الفرق بين الكفارة الكبرى (عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا) وبين الفدية الواجبة على من لا يستطيع الصيام أبدًا بسبب مرض مزمن أو كبر سن.

القيم الروحية والاجتماعية للصيام

ينتقل القرضاوي إلى الحديث عن أثر الصيام في بناء الشخصية المسلمة، إذ يرى أن الصيام ليس غاية في ذاته، وإنما وسيلة لصناعة الإنسان القوي العازم، الذي يضبط شهواته، ويهذب غرائزه، ويقوي إرادته.

ويؤكد أن الصيام يعلّم الصبر والاحتمال، ويغرس في النفس مراقبة الله، كما يعزز الشعور بالمساواة بين الناس جميعًا، إذ يجوع الغني كما يجوع الفقير، ويحسّ بمعاناته، مما يؤدي إلى تقوية أواصر الرحمة والتكافل.

فتاوى معاصرة في فقه الصيام

يختم المؤلف كتابه بعدد من الفتاوى المعاصرة المتعلقة بالصيام، مما يجعل الكتاب مرجعًا مهمًا للمسلمين في كل مكان، خاصة في ظل تعقيدات الحياة المعاصرة، وتنوع الحالات الفردية والاجتماعية، ومن أبرز هذه الفتاوى:

• صيام المرضى بالسكري.

• حكم غسيل الكلى للصائم.

• الصيام في البلاد التي تطول فيها ساعات النهار أو تقصر جدًا.

• استعمال التحاميل، والقطرات، ومعجون الأسنان.

• الصيام في الطائرة.

• استعمال اللصقات الجلدية الطبية.

يعتمد القرضاوي في فتواه على المزج بين مقاصد الشريعة وأقوال السلف، دون الجمود على النصوص، بل بالسعي إلى تنزيلها على الواقع، مع الحذر من التساهل غير المنضبط.

جدول مقارنة بين المفطرات محل الخلاف

الخلاصة العلمية للكتاب

يُعد كتاب تيسير الفقه (فقه الصيام) للدكتور يوسف القرضاوي مرجعًا فقهيًا شاملًا يحقق التوازن بين فقه النص وفقه الواقع، وبين الثوابت والمتغيرات. ويُمثّل إضافة نوعية للمكتبة الإسلامية من حيث المنهج والأسلوب والطرح. الكتاب لا يكتفي بسرد الأحكام، بل يُعلي من القيم والمقاصد التي تقوم عليها الشريعة، ويؤسس لفهم تجديدي للصيام يجعل منه فريضة إصلاحية شاملة تتجاوز البعد التعبدي الفردي لتشمل إصلاح السلوك والمجتمع والعالم من حولنا.

المراجع:

1. يوسف القرضاوي، تيسير الفقه: فقه الصيام، دار الشروق، القاهرة.

2. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، دمشق.